بابُ وصيّةِ الميّتِ
ذكـــــر
روينا في صحيح البخاري، عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: دخلت على أبي بكر رضي اللّه عنه: يعني وهو مريض، فقال: في كم كفّنتم النبيّ صلى اللّه عليه وسلم؟ فقلت: في ثلاثة أثواب، قال: في أيّ يوم تُوفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ قالت: يوم الاثنين، قال: فأيّ يوم هذا؟ قالت: يوم الاثنين، قال: أرجو فيما بيني وبين الليل، فنظر إلى ثوب عليه كان يمرّض فيه به رَدْع من زعفران، فقال: اغسلوا ثوبي هذا وزيدوا عليه ثوبين فكفِّنوني فيها. قلت: إن هذا خَلَق، قال: إن الحيّ أحقُّ بالجديد من الميت، إنما هو للمهلة، فلم يتوفّ حتى أمسى من ليلة الثلاثاء، ودُفن قبل أن يُصبحَ.
قلت: قولها رَدْع، بفتح الراء وإسكان الدال وبالعين المهملات: وهو الأثر. وقوله للمهلة، روي بضم الميم وفتحها وكسرها ثلاث لغات والهاء ساكنة: وهو الصديد الذي يتحلّل من بدن الميت.
وروينا في صحيح البخاري؛ أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال لما جُرِحَ: إذا أنا قُبِضتُ فاحملوني، ثم سلِّم وقلْ يستأذنُ عمر، فإن أذنتْ لي ـ يعني عائشةَ ـ فأدخلوني، وإن ردّتني فردّوني إلى مقابر المسلمين. (البخاري
وروينا في صحيح مسلم، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: قال سعد: الحدوا لي لحداً، وانصبوا عليَّ اللبنَ نصباً كما صُنع برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. (مسلم وروينا في صحيح مسلم، عن عمرو بن العاص رضي اللّه عنه؛ أنه قال وهو في سياقة الموت: إذا أنا متّ فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فشنّوا عليَّ التراب شنًّا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما يُنحر جزور ويقسم لحمها أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي. (مسلم
قلت: قوله شنوا، روي بالسين المهملة وبالمعجمة، ومعناه: صبّوه قليلاً قليلاً.
وروينا في هذا المعنى حديث حذيفة المتقدم في باب إعلام أصحاب الميت بموته، وغير ذلك من الأحاديث، وفيما ذكرناه كفاية وباللّه التوفيق.
قلت: وينبغي أن لا يقلد الميتُ ويتابع في كلّ ما وصَّى به، بل يُعرض ذلك على أهل العلم، فما أباحوه فعل ما لا فلا. وأنا أذكر من ذلك أمثلة، فإذا أوصى بأن يدفن في موضع من مقابر بلدته، وذلك الموضع معدن الأخيار فينبغي أن يُحافظ على وصيته، وإذا أوصى بأن يُصلِّي عليه أجنبي فهل يُقَدَّم في الصلاة على أقارب الميت؟ فيه خلاف للعلماء، والصحيح في مذهبنا أن القريب أولى، لكن إن كان الموصَى له ممّن يُنسب إلى الصلاح أو البراعة في العلم مع الصيانة والذكر الحسن، استحبّ للقريب الذي ليس هو في مثل حاله إيثاره رعاية لحقّ الميت، وإذا أوصى بأن يُدفن في تابوت لم تنفذ وصيته، إلا أن تكون الأرض رخوة، أو نديّة يحتاج فيها إليه، فتُنفذ وصيّته فيه ويكون من رأس المال؛ كالكفن. وإذا أوصى بأن يُنقل إلى بلد آخر لا تنفّذ وصيّته، فإن النقل حرامٌ على المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرن وصرّح به المحققون، وقيل: مكروه.
قال الشافعي رحمه اللّه: إلا أن يكون بقرب مكة أو المدينة أو بيت المقدس فيُنقل إليها لبركتها. وإذا أوصى بأن يُدفَن تحته مِضربة أو مخدة تحتَ رأسه أو نحو ذلك لم تُنفذ وصيّته. وكذا إذا أوصى بأن يُكفَّن في حرير، فإن تكفينَ الرجال في الحرير حرام، وتكفينُ النساء فيه مكروه وليس بحرام، والخنثى في هذا كالرجل. ولو أوصى بأن يُكَفَّن فيما زاد على عدد الكفن المشروع أو في ثوب لا يَستر البدن لا تنفذ وصيّته. ولو أوصى بأن يُقرأ عند قبره أو يُتصدّق عنه وغير ذلك من أنواع القرب، نُفِّذَتْ إلا أن يقترن بها ما يمنع الشرع منها بسببه. ولو أوصى بأن تُؤَخَّرَ جنازته زائداً على المشروع لم تنفذ. ولو أوصى بأن يُبنى عليه في مقبرة مسبَّلة للمسلمين لم تنفّذ وصيته، بل ذلك حرام.