بابُ ما يقولُه مَنْ بُلي بالوَسْوَسَة
قال اللّه تعالى: {وَ إمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ باللَّهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} فصلت:36 فأحسنُ ما يُقال ما أدَّبَنا اللّه تعالى به وأمرَنا بقوله.
وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: " يأتِي الشَّيْطانُ أحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا، مَنْ خَلَقَ كَذَا، حتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فإذَا بَلَغَ ذَلِكَ فَلْيَسْتَعِذْ باللّه وَلْيَنْتَهِ " وفي رواية في الصحيح: " لا يَزالُ النَّاسُ يَتَساءلُونَ حتَّى يُقالَ هَذَا: خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذلكَ شَيْئاً فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ باللَّهِ وَرُسُلِهِ " .
وروينا في كتاب ابن السني، عن عائشة رضي اللّه عنها، قالت: قال رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم: " مَنْ وَجَدَ مِنْ هَذَا الوَسْوَاسِ فَلْيَقُلْ: آمَنَّا باللَّهِ وَبِرُسُلِهِ ثَلاثاً. فإنَّ ذلكَ يَذْهَبُ عَنْهُ " .
وروينا في صحيح مسلم، عن عثمان بن أبي العاصي (عن عثمان بن أبي العاصي: هو الثقفي الطائفي قدم على النبيّ صلى اللّه عليه وسلم في وفد ثقيف سنة تسع. واستعمله النبيّ صلى اللّه عليه وسلم عليهم وعلى الطائف، وكان أحدث القوم سنّاً، وأقرّه عليها أبو بكر وعمر، واستعمله عمر أيضاً على عمان والبحرين، روى له فيما قيل عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم تسعة عشر حديثاً، أخرج مسلم عنه ثلاثة أحاديث، ولم يخرّج عنه البخاري، وخرّج عنه الأربعة، روى عنه ابن المسيب في آخرين، نزل البصرة ومات بها في زمن معاوية سنة إحدى وخمسين) " رضي اللّه عنه قال: قلتُ يا رسول اللّه إن الشيطان قد حال ( " قد حال " بالحاء المهملة: أي جعل بيني وبين كمال الصلاة والقراءة حاجزاً من وسوسته المانعة من رُوح العبادة وسرّها، وهو الخشوع) بيني وبين صلاتي وقراءتي يَلْبِسُهَا عليّ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: " ذلكَ شَيْطانٌ يُقالُ لَهُ خِنْزَبٌ، فإذَا أحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ باللَّهِ مِنْهُ وَ اتْفُلْ عَنْ يَسارِكَ ثَلاثاً " ففعلتُ ذلك فأذهبه اللّه عنه.
قلتُ: خِنْزب بخاء معجمة ثم نون ساكنة ثم زاي مفتوحة ثم باء موحدة، واختلف العلماء في ضبط الخاء منه، فمنهم من فتحها، ومنهم من كسرها، وهذان مشهوران، ومنهم من ضمَّها حكاه ابن الأثير في نهاية الغريب، والمعروف الفتح والكسر. "
وروينا في سنن أبي داود بإسناد جيد، عن أبي زُمَيْل قال: قلت لابن عباس: ما شيء أجده في صدري؟ قال: ما هو؟ قلت: واللّه لا أتكلم به، فقال لي: أشيء من شكّ؟ وضحك وقال: ما نجا منه أحدٌ حتى أنزل اللّه تعالى: {فإنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أنْزَلْنا إلَيْكَ} الآية، يونس:94 فقال لي: إذا وجدت في نفسك شيئاً فقل {هُوَ الأوَّلُ والآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالباطِنُ وَهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} الحديد:3.
وروينا بإسنادنا الصحيح في رسالة الأستاذ أبي القاسم القُشيري رحمه اللّه، عن أحمد بن عطاء الروذباري السيد الجليل رضي اللّه عنه قال: كان لي استقصاء في أمر الطهارة، وضاق صدري ليلة لكثرة ما صببتُ من الماء ولم يسكنْ قلبي، فقلت: يا ربّ عفوك عفوك، فسمعتُ هاتفاً يقول: العفو في العلم، فزال عني ذلك. وقال بعض العلماء: يستحبّ قول " لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ " لمن ابتلي بالوسوسة في الوضوء أو في الصلاة أو شبههما، فإن الشيطان إذا سمع الذكر خنس: أي تأخر وبعد، ولا إِله إِلاَّ اللَّه رأسُ الذكر، ولذلك اختار السادة الأجلّة من صفوة هذه الأمة أهل تربية السالكين وتأديب المريدين قول: لا إِله إِلاَّ اللّه لأهل الخلوة وأمروهم بالمداومة عليها، وقالوا: أنفع علاج في دفع الوسوسة الإِقبال على ذكر اللّه تعالى والإِكثار منه. وقال السيد الجليل أحمد بن أبي الحواري ـ بفتح الراء وكسرها ـ شكوتُ إلى أبي سُليمان الداراني الوسواس، فقال: إذا أردت أن ينقطع عنك، فأيّ وقت أحْسَسْتَ به فافرح، فإنك إذا فرحتَ به انقطع عنك، لأنه ليس شيء أبغض إلى الشيطان من سرور المؤمن، وإن اغتممت به زادك. قلت: وهذا مما يُؤيد ما قاله بعض الأئمة: إن الوسواس إنما يُبتلى به من كمل إيمانه، فإن اللصّ لا يقصد بيتاً خرباً.