o تمهيد عن الأمر بالإِخلاص وأعمال القلوب
فصل: في أحوال تعرضُ للذاكر
يُستحبّ له قطعُ الذكر بسببها ثم يعودُ إليه بعد زوالها: منها إذا سُلِّم عليه ردّ السلام ثم عاد إلى الذكر، وكذا إذا عطسَ عنده عاطشٌ شمَّته ثم عاد إلى الذكر، وكذا إذا سمع الخطيبَ، وكذا إذا سمع المؤذّنَ أجابَه في كلمات الأذان والإقامة ثم عاد إلى الذكر، وكذا إذا رأى منكراً أزاله، أو معروفاً أرشد إليه، أو مسترشداً أجابه ثم عاد إلى الذكر، كذا إذا غلبه النعاس أو نحوه. وما أشبه هذا كله.
فصل
ينبغي لمن كان له وظيفةٌ من الذكر في وقت من ليل أو نهار، أو عقب صلاة أو حالة من الأحوال ففاتته أن يتداركها ويأتي بها إذا تمكن منها ولا يهملها، فإنه إذا اعتاد الملازمة عليها لم يعرّضها للتفويت، وإذا تساهل في قضائها سَهُلَ عليه تضييعها في وقتها.
وقد ثبت في صحيح مسلم)، عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:
" مَنْ نامَ عَنْ حِزْبِهِ أَوْ عَنْ شيءٍ مِنْهُ فقرأهُ ما بَيْنَ صَلاةِ الفَجْرِ وَصلاة الظُّهْرِ كُتب له كأنما قرأه من اللَّيل " .
فصل: المرادُ من الذكر حضورُ القلب
فينبغي أن يكون هو مقصودُالذاكر فيحرص على تحصيله، ويتدبر ما يذكر، ويتعقل معناه. فالتدبُر في الذكر مطلوبٌ كما هو مطلوبٌ في القراءة لاشتراكهما في المعنى المقصود، ولهذا كان المذهبُ الصحيح المختار استحباب مدَّ الذاكر قول: لا إله إلا اللّه، لما فيه من التدبر، وأقوالُ السلف وأئمة الخلف في هذا مشهورة، واللّه أعلم)محبوبٌ في جميع الأحوال إلا في أحوال وردَ الشرعُ باستثنائها نذكرُ منها هننا طرفاً، إشارة إلى ما سواه مما سيأتي في أبوابه إن شاء اللّه تعالى. فمن ذلك أنه يُكره الذكرُ حالةَض الجلوس على قضاء الحاجة، وفي حالة الجِماع، وفي حالة الخُطبة لمن يسمعُ صوتَض الخطيب، وفي القيام في الصلاة، بل يشتغلُ بالقراءة، وفي حالة النعاس. ولا يُكره في الطريق ولا في الحمَّام، واللّه أعلم.
فصل
اعلم أن الذكر محبوبٌ في جميع الأحوال إلا في أحوال وردَ الشرعُ باستثنائها نذكرُ منها هننا طرفاً، إشارة إلى ما سواه مما سيأتي في أبوابه إن شاء اللّه تعالى. فمن ذلك أنه يُكره الذكرُ حالةَض الجلوس على قضاء الحاجة، وفي حالة الجِماع، وفي حالة الخُطبة لمن يسمعُ صوتَض الخطيب، وفي القيام في الصلاة، بل يشتغلُ بالقراءة، وفي حالة النعاس. ولا يُكره في الطريق ولا في الحمَّام، واللّه أعلم.
فصل: وينبغي أن يكون الموضعُ الذي يذكرُ فيه خالياً نظيفاً
فإنه أعظمُ في احترام الذكر المذكور، ولهذا مُدح الذكرُ في المساجد والمواضع الشريفة. وجاء عن الإمام الجليل أبي ميسرة رضي اللّه عنه قال: لا يُذكر اللّه تعالى إلاَّ في مكان طيّب. وينبغي أيضاً أن يكون فمه نظيفاً، فإن كان فيه تغيُّر أزاله بالسِّواك، وإن كان فيه نجاسة أزالها بالغسل بالماء، فلو ذكر ولم يغسلها فهو مكروهٌ ولا يَحرمُ، ولو قرأ القرآن وفمُه نجسٌ كُره، وفي تحريمه وجهان لأصحابنا: أصحُّهما لا يَحرم.
فصل: ينبغي أن يكون الذاكرُ على أكمل الصفات
إن كان جالساً في موضع استقبل القبلة وجلس مُتذلِّلاً مُتخشعاً بسكينة ووقار، مُطرقاً رأسه، ولو ذكر على غير هذه الأحوال جاز ولا كراهة في حقه، لكن إن كان بغير عذر كان تاركاً للأفضل. والدليل على عدم الكراهة قول اللّه تعالى: {إنَّ في خَلْقِ السَّمَوَاتِ والأَرْض واخْتِلاَفِ اللَّيْلِ والنَّهارِ لآياتٍ لأُولِي الألْبابِ. الَّذينَ يَذْكرُونَ اللّه قِياماً وَقُعوداَ وَعلى جُنوبِهمْ وَيَتَفكَّرُونَ في خَلْقِ السَّمَوَاتِ والأرْضِ..}آل عمران: 190ـ 191.
وثبت في الصحيحين ، عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: كان رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتكىء في حجري وأنا حائض فيقرأ القرآن. رواه البخاري ومسلم. وفي رواية: ورأسه في حجري وأنا حائض(البخاري (7549) . وجاء عن عائشة رضي اللّه عنها أيضاً قالت: إني لأقرأ حزبي وأنا مضطجعةٌ على السرير.
فصل
أجمع العلماءُ على جواز الذكر بالقلب واللسان للمُحْدِث والجُنب والحائض والنفساء، وذلك في التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير والصلاة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والدعاء وغير ذلك. ولكنَّ قراءة القرآن حرامٌ على الجُنب والحائض والنفساء، سواءٌ قرأ قليلاً أو كثيراً حتى بعض آية، ويجوز لهم إجراءُ القرآن على القلب من غير لفظ، وكذلك النَّظَرُ في المصحف، وإمرارُه على القلب. قال أصحابُنا: ويجوز للجُنب والحائض أن يقولا عند المصيبة: {إنَّا للّه وإنَّا إليه راجعون}، وعند ركوب الدابة: {سبحان الذي سخَّر لنا هذا وما كُنَّا له مُقرنين} ، وعند الدعاء: {ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار}، إذا لم يقصدا به القرآن، ولهما أن يقولا: بسم اللّه، والحمد للّه، إذا لم يقصدا القرآن، سواءٌ قصدا الذكر أو لم يكن لهما قصد، ولا يأثمان إلا إذا قصدا القرآن، ويجوزُ لهما قراءةُ ما نُسخت تلاوتُه " كالشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما " . وأما إذا قالا لإِنسان: خذ الكتاب بقوّة، أو قالا: ادخلوها بسلام آمنين، ونحو ذلك، فإن قصدا غيرَ القرآن لم يحرم، وإذا لم يجدا الماء تيمَّمَا وجاز لهما القراءة، فإن أحدثَ بعد ذلك لم تحرم عليه القراءة كما لو اغتسل ثم أحدث. ثم لا فرق بين أن يكون تَيمُّمُه لعدم الماء في الحَضَر أو في السفر، فله أن يقرأ القرآن بعده وإن أحدث. وقال بعضُ أصحابنا: إن كان في الحضر صلَّى به وقرأ به في الصلاة، ولا يجوزُ أن يقرأ خارجَ الصلاة، والصحيحُ جوازه كما قدّمناه، لأن تيمُّمَه قام مقام الغسل. ولو تيمَّمَ الجنبُ ثم رأى ماء يلزمُه استعمالُه فإنه يحرمُ عليه القراءة وجميع ما يحرم على الجُنب حتى يغتسل. ولو تيمَّم وصلَّى وقرأ ثم أراد التيمّم لحدثٍ أو لفريضةٍ أخرى أو لغير ذلك لم تحرم عليه القراءة.
هذا هو المذهب الصحيح المختار، وفيه وجه لبعض أصحابنا أنه يحرمُ، وهو ضعيف.
أما إذا لم يجد الجُنبُ ماءً ولا تُراباً فإنه يُصلِّي لحُرمة الوقت على حسب حاله، وتحرمُ عليه القراءة خارجَ الصلاة، ويحرمُ عليه أن يقرأ في الصلاة ما زاد على الفاتحة.
وهل تحرمُ الفاتحة؟ فيه وجهان: أصحُّهما لا تحرمُ بل تجبُ، فإن الصَّلاةَ لا تصحُّ إلا بها، وكما جازت الصلاةُ للضرورة تجوزُ القراءة. والثاني تحرمُ، بل يأتي بالأذكار التي يأتي بها مَن لا يُحسن شيئاً من القرآن. وهذه فروعٌ رأيتُ إثباتها هنا لتعلقها بما ذكرتُه، فذكرتها مختصرة وإلا فلها تتمّات وأدلة مستوفاة في كتب الفقه، واللّه أعلم.
فصل
قال اللّه تعالى: {إنَّ المُسْلِمِينَ والمُسْلِماتِ} إلى قوله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللّه كَثيراً وَالذَّاكِرَاتِ، أعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مغْفِرَةً وأجْراً عَظِيماً} الأحزاب:35.
وروينا في صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه؛ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال:
" سَبَقَ المُفرِّدونَ، قالُوا: ومَا المُفَرِّدونَ يا رَسُولَ اللّه؟! قالَ: الذَّاكِرُونَ اللّه كَثِيراً وَالذَّاكرَاتُ " .
قلت: روي المفرِّدون بتشديد الراء وتخفيفها، والمشهور الذي قاله الجمهور التشديد.
واعلم أن هذه الآية الكريمة (المراد بالآية هنا هي قوله تعالى: {والذاكرين اللّه كثيراً والذاكرات، أعدّ اللّه لهم مغفرة وأجراً عظيماً} الأحزاب:35)
مما ينبغي أن يهتمَّ بمعرفتها صاحبُ هذا الكتاب.
وقد اختُلِفَ في ذلك، فقال الإِمامُ أبو الحسن الواحديّ: قال ابن عباس: المراد يذكرون اللّه في أدبار الصلوات، وغدوّاً وعشيّاً، وفي المضاجع، وكلما استيقظ من نومه، وكلما غدا أو راح من منزله ذكرَ اللّه تعالى. وقال مجاهد: لا يكونُ من الذاكرين اللّه كثيراً والذاكرات حتى يذكر اللّه قائماً وقاعداً ومضطجعاً. وقال عطاء: من صلَّى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخلٌ في قول اللّه تعالى: {والذَّاكِرِينَ اللّه كَثيراً وَالذَّاكِرَاتِ} هذا نقل الواحدي.
وقد جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:
" إذا أيْقَظَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّيَا ـ أَوْ صَلَّى ـ رَكعَتينِ جَمِيعاً كُتِبَا في الذَّاكِرِينَ اللّه كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ " هذا حديث مشهور رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه في سننهم.
وسئل الشيخ الإمام أبو عمر بن الصَّلاح رحمه اللّه عن القدر الذي يصيرُ به من الذاكرينَ اللّه كثيراً والذاكرات، فقال: إذا واظبَ على الأذكار المأثورة، كان من الذاكرين اللّه كثيراً والذاكرات، واللّه أعلم.
فصل
اعلم أن فضيلة الذكر غيرُ منحصرةٍ في التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ونحوها، بل كلُّ عاملٍ للّه تعالى بطاعةٍ فهو ذاكرٌ للّه تعالى، كذا قاله سعيدُ بن جُبير رضي اللّه عنه زغيره من العلماء. وقال عطاء رحمه اللّه: مجالسُ الذِّكر هي مجالسُ الحلال والحرام، كيف تشتري وتبيعُ وتصلّي وتصومُ وتنكحُ وتطلّق وتحجّ، وأشباه هذا.
فصل: الذكر يكون بالقلب، ويكون باللسان
والأفضلُ منه ما كانَ بالقلب واللسان جميعاً، فإن اقتصرَ على أحدهما فالقلبُ أفضل، ثم لا ينبغي أن يُتركَ الذكرُ باللسان مع القلب خوفاً من أن يُظنَّ به الرياء، بل يذكرُ بهما جميعاً ويُقصدُ به وجهُ اللّه تعالى، وقد قدّمنا عن الفُضَيل رحمه اللّه: أن ترك العمل لأجل الناس رياء. ولو فتح الإنسانُ عليه بابَ ملاحظة الناس، والاحتراز من تطرّق ظنونهم الباطلة لا نسدَّ عليه أكثرُ أبواب الخير، وضيَّع على نفسه شيئاً عظيماً من مهمَّات الدين، وليس هذا طريق
العارفين.
وروينا في صحيحي البخاري ومسلم
، عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: نزلت هذه الآية {وَلاَتَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ولا تُخافِتْ بِها} الإسراء:110 في الدعاء.
فصل: اعلم أنه كما يُستحبُّ الذكر يُستحبُّ الجلوس في حِلَق أهله
وقد تظاهرت الأدلة على ذلك، وستردُ في مواضعها إن شاء اللّه تعالى، ويكفي في ذلك حديث ابن عمر رضي اللّه عنهما قال:
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: " إذا مَرَرْتُمْ بِرِياضِ الجَنَّةِ فارْتَعُوا. قالُوا: وَمَا رِياضُ الجَنَّةِ يا رَسُولَ اللّه؟! قالَ: حِلَقُ الذّكْرِ، فإنَّ للّه تعالى سَيَّارَاتٍ مِنَ المَلائِكَةِ يَطْلُبُونَ حِلَقَ الذّكْرِ، فإذَا أَتَوْا عَليْهِمْ حَفُّوا بِهِمْ "
وروينا في صحيح مسلم، عن معاوية رضي اللّه عنه أنه قال: خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على حلقة من أصحابه فقال: " ما أجْلَسَكُم؟ قالوا: جلسنا نذكُر اللّه تعالى ونحمَدُه على ما هدانا للإسلام ومنّ به علينا، قال: آللّه ما أجْلَسَكُمْ إلا ذَاكَ؟ قالوا: واللَّهِ، ما أجلسنا إلاّ ذاك، قال: أما إني لَمْ أستحلِفكُمْ تُهمةً لكُمْ، ولَكنَّهُ أتاني جبْرِيلُ فأخْبَرَنِي أنَّ اللّه تعالى يُباهي بكُمُ المَلائكَةَ " .
وروينا في صحيح مسلم ومعنى " غشيتهم الرحمة " : أي غطّتهم من كل جهة: و " السكينة " هي المذكورة في قوله تعالى: {هو الذي أنزَلَ السكينةَ في قلوب المؤمنينَ ليزدَادُوا إيماناً}الفتح:4.)
أيضاً، عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي اللّه عنهما: أنهما شهدا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال:
" لا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُون اللّه تَعالى إلا حَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ وَغَشِيَتهُمُ الرَّحْمَةُ وَنَزَلَتْ عَليهِمْ السَّكِينَةُ وَذَكَرََهُمُ اللَّهُ تَعالى فِيمَنْ عِنْدَهُ " .
فصل: اعلم أنه ينبغي لمن بلغه شيء في فضائل الأعمال أن يعمل به
اعلم أنه ينبغي لمن بلغه شيء في فضائل الأعمال أن يعمل به ولو مرّة واحدة ليكون من أهله، ولا ينبغي أن يتركه مطلقاً بل يأتي بما تيسر منه، لقول النبي صلى اللّه عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته:
" إذَا أَمَرْتُكُمْ بَشَيءٍ فأْتُوا مِنْهُ ما اسْتَطعْتُمْ "
قال العلماءُ من المحدّثين والفقهاء وغيرهم: يجوز ويُستحبّ العمل في الفضائل والترغيب والترهيب بالحديث الضعيف ما لم يكن موضوعاً، وأما الأحكام كالحلال والحرام والبيع والنكاح والطلاق وغير ذلك فلا يُعمل فيها إلا بالحديث الصحيح أو الحسن إلا أن يكون في احتياطٍ في شيء من ذلك، كما إذا وردَ حديثٌ ضعيفٌ بكراهة بعض البيوع أو الأنكحة، فإن المستحبَّ أن يتنزّه عنه ولكن لا يجب. وإنما ذكرتُ هذا الفصل لأنه يجيءُ في هذا الكتاب أحاديثُ أنصُّ على صحتها أو حسنها أو ضعفها، أو أسكتُ عنها لذهول عن ذلك أو غيره، فأردتُ أن تتقرّر هذه القاعدة عند مُطالِع هذا الكتاب.
فصل: في الأمر بالإِخلاص وحسن النيّات في جميع الأعمال الظاهرات والخفيَّات.
قال اللّه تعالى: {وَمَا أُمِروا إلاَّ ليعبُدوا اللّه مُخلِصِينَ لَهُ الدّين حُنفاء} البيِّنة:5 وقال تعالى: {لَنْ يَنالَ اللّه لُحومُها وَلاَ دِماؤُها ولكنِ ينالُهُ التَّقوى مِنكمْ}الحج:37 قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: معناه ولكن يناله النيّات.
أخبرنا شيخنا الإمام الحافظ أبو البقاء خالد بن يوسف بن الحسن بن سعد بن الحسن بن المفرّج بن بكار المقدسيّ النابلسيّ ثم الدمشقي رضي اللّه عنه، أخبرنا أبو اليمن الكندي، أخبرنا محمد بن عبد الباقي الأنصاري، أخبرنا أبو محمد الحسن بن عليّ الجوهري، أخبرنا أبو الحسين محمد بن المظفر الحافظ، أخبرنا أبو بكر محمد بن محمد بن سليمان الواسطي، حدّثنا أبو نُعيم عبيد بن هشام الحلبي، حدّثنا ابن المبارك، عن يحيى بن سعيد ـ هو الأنصاري ـ عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقّاص الليثيّ، عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:
" إنَّما الأعْمالُ بالنِّيَّاتِ وإنَّمَا لِكُلّ امرىءٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللّه وَرَسولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى اللّه وَرَسولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيا يُصِيبُها أَوِ امْرأةٍ يَنْكِحُها فَهِجْرَتُه إلى ما هَاجَرَ إلَيْهِ " .
هذا حديث متفق على صحته، مجمع على عظم موقعه وجلالته، وهو أحد الأحاديث التي عليها مدارُ الإِسلام؛ وكان السلف وتابعوهم من الخلف رحمهم اللّه تعاالى يَستحبُّون استفتاح المصنفات بهذا الحديث، تنبيهاً للمُطالع
على حسن النيّة، واهتمامه بذلك والاعتناء به.
روينا عن الإمام أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي رحمه اللّه تعالى: منن أراد أن يُصنِّفَ كتاباً فليبدأ بهذا الحديث. وقال الإمام أبو سليمان الخَطَّابي رحمه اللّه: كان المتقدمون من شيوخنا يستحبُّون تقديم حديث الأعمال بالنيّة أمامَ كل شيء ينشأ ويبتدأ من أمور الدين لعموم الحاجة إليه في جميع أنواعها. وبلغنا عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال: إنما يُحْفَظكُ الرجلُ على قدر يّته. وقال غيرُه: إنما يُعطى الناسُ على قدر نيّاتهم.
وروينا عن السيد الجليل أبي عليّ الفُضيل بن عِياض رضي اللّه عنه قال: تركُ العمل لأجل الناس رياءٌ، والعمل لأجل الناس شِركٌ، والإِخلاصُ أن يعافيَك اللّه منهما. وقال الإمام الحارث المحاسبيُّ رحمه اللّه: الصادق هو الذي لا يُبالي لو خرج كلُّ قَدْرٍ له في قلوب الخلق من أجل صَلاح قلبه، ولا يحبُّ اطّلاع الناس على مثاقيل الذرِّ من حس عمله ولا يكرهُ أن يطلعَض الناسُ على السيء من عمله. وعن حُذيفة المَرْعشيِّ رحمه اللّه قال: الإِخلاصُ أن تستوي أفعالُ العبد في الظاهر والباطن.
وروينا عن الإمام الأستاذ أبي القاسم القُشَيريّ رحمه اللّه قال: الإِخلاصُ إفرادُ الحق سبحانه وتعالى في الطاعة بالقصد، وهو أن يُريد بطاعته التقرّب إلى اللّه تعالى دون شيء آخر: من تَصنعٍ لمخلوق، أو اكتساب محمَدةٍ عند الناس، أو محبّة مدحٍ من الخلق أو معنى من المعاني سوى التقرّب إلى اللّه تعالى. وقال السيد الجليل أبو محمد سهل بن عبد اللّه التُستَريُّ رضي اللّه عنه: نظر الأكياسُ في تفسير الإِخلاص فلم يجدوا غير هذا: أن يكون حركتُه وسكونه في سرِّه وعلانيته للّه تعالى، ولا يُمازجه نَفسٌ ولا هوىً ولا دنيا.
وروينا عن الأستاذ أبي علي الدقاق رضي اللّه عنه قال: الإِخلاصُ: التوقِّي عن ملاحظة الخلق، والصدق: التنقِّي عن مطاوعة النفس، فالمخلصُ لا رياء له، والصادقُ لا إعجابَ له. وعن ذي النون المصري رحمه اللّه قال: ثلاثٌ من علامات الإِخلاص: استواءُ المدح والذمّ من العامَّة، ونسيانُ رؤية الأعمال في الأعمال، واقتضاءُ ثواب العمل في الآخرة.
وروينا عن القُشَيريِّ رحمه اللّه قال: أقلُّ الصدق استواءُ السرّ والعلانية. وعن سهل التستري: لا يشمّ رائحة الصدق عبدٌ داهن نفسه أو غيره، وأقوالهم في هذا غير منحصرة، وفيما أشرت إليه كفاية لمن وُفق.