أهل الصدق إذا دخلوا في السماع الباطل
فصل
أسرار الصَّلاة للإمَام العلامَة ابن قيِّم الجَوزيَّة
و لهذا كان بعض الصادقين إذا فارق السماع بادر إلى تجديد التوبة و الاستغفار، و أخذ في أسباب التداوي التي يُدفع بها موجب أسباب القبض و الوحشة و البعد. و هذا القدر إنما يعرفه أولوا الفقه في الطريق أصحاب الفِطَن، المعتنون بتكميل نفوسهم، و معرفة أدوائها و أدويتها و الله المستعان. و لا ريب أن الصادق في سماع الأبيات قد يجد ذوقاً صحيحاً إيمانياً، و لكن ذلك بمنزلة من شرب عسلاً في إناء نجس. و النفوس الصادقة ذوات الهمم العالية رفعت أنفسها عن الشراب في ذلك الإناء تقذراً له، ففرت منه لاستقامتها و طهارتها، و علو همتها فهي لا تشرب ذلك الشراب إلا في إناء يناسبه، فإذا لم يجد إناء يناسبه صانت الشراب عن وضعه في ذلك الإناء، و انتظرت أن يليق به. و غيرها من النفوس تضع ذلك الشراب في أي إناء انفق لها ؛ من عظام ميتة أو جلد كلب أو خنزير أو إناء خمر، طالما ما شرب به الخمر، أو لا يستحي الغراب أن يشرب أطيب شراب و ألذه في هذه الآنية؟ و لو جرَّد الصادق ذلك في حال سماعه لوجد ذوقه من ذلك، و لكن حلاوة العسل تغيب عنه نتنه و قذره و أثر قبحه على قلبه في تلك الحال، فبعد مفارقته يوجب له ذلك وحشةً و قبضاً، هذا إذا كان صادقاً في حاله مع الله و كان سماعه لله و بالله. و أما إن كان كاذباً كان سماعه للذة نفسه و حظه فهو يشرب النجاسات في الآنية القذرات و لا يحس بشيء مما ذكرناه ؛ لاستيلاء الهوى و النفس و الشيطان عليه. و أما صاحب السماع القرآني الذي تذوَّقه، و شرب منه، فهو يشرب الشراب الطهور، الطيب النظيف في أنظف إناءٍ، و أطيبه، و أطهره. فالآنية ثلاثة: نظيف، و نجس، و مختلط. و الشرابات ثلاثة: طاهر و نجس و ممزوج.