لماذا الراحة بالصلاة ؟
فصل
أسرار الصَّلاة للإمَام العلامَة ابن قيِّم الجَوزيَّة
أي أقمها لنستريح بها من مقاساة الشواغل كما يستريح التعبان إذا وصل إلى مأمنه و منزله و قرَّ فيه، و سكن و فارق ما كان فيه من التعب و النصب. و تامل كيف قال: " أرحنا بالصّلاة " و لم يقل: " أرحنا منها "، كما يقوله المتكلف الكاره لها، الذي لا يصليها إلا على إغماض و تكلف، فهو في عذاب ما دام فيها، فإذا خرج منها وجد راحة قلبه و نفسه ؛ و ذلك أنَّ قلبه ممتلئ بغيره، و الصلاة قاطعة له عن أشغاله و محبوباته الدنيوية، فهو معذَّب بها حتى يخرج منها، و ذلك ظاهر في أحواله فيها، من نقرها، و التفات قلبه إلى غير ربه، و ترك الطمأنينة و الخشوع فيها، و لكن قد عَلِمَ أنَّه لا بدّ له من أدائها، فهو يؤديها على أنقص الوجوه، قائل بلسانه ما ليس في قلبه و يقول بلسان قلبه حتى نصلي فنستريح من الصلاة، لا بها. فهذا لونٌ و ذاك لونٌ آخر. ففرق بين مَن كانت الصلاة لجوارحه قيداً ثقيلاً، و لقلبه سجناً ضيقا حرجاً، و لنفسه عائقا، و بين مَن كانت الصلاة لقلبه نعيماً، و لعينه قرة و لجوارحه راحة، و لنفسه بستاناً و لذة. فالأول: الصلاة سجن لنفسه، و تقييد لجوارحه عن التورط في مساقط الهلكات، و قد ينال بها التكفير و الثواب، أو ينال من الرحمة بحسب عبوديته لله تعالى فيها، و قد يعاقب على ما نقص منها. و القسم الآخر: الصلاة بستان له، يجد فيها راحة قلبه، و قرّة عينه، و لذَّة نفسه، و راحة جوارحه، و رياض روحه، فهو فيها في نعيم يتفكَّه، و في نعيم يتقلَّب يوجب له القرب الخاص و الدنو، و المنزلة العالية من الله عزَّ و جل، و يشارك الأولين في ثوابهم، بل يختص بأعلاه، و ينفرد دونهم بعلو المنزلة و القربة، التي هي قدر زائد على مجرد الثواب.