عبودية الجلوس للتشهد و معنى التحيات
فصل
أسرار الصَّلاة للإمَام العلامَة ابن قيِّم الجَوزيَّة
و لما كان من عادة الملوك أن يحيوا بأنواع التحيات من الأفعال و الأقوال المتضمنة للخضوع لهم، و الذل، و الثناء عليهم و طلب البقاء، و الدوام لهم، و أن يدوم ملكهم. فمنهم: من يحيّي بالسجود و منهم من يحيي بالثناء عليه و منهم: من يحيي بطلب البقاء، و الدوام له. و منهم: من يجمع له ذلك كلّه فيسجد له، ثم يثني عليه، ثم يدعي له بالبقاء و الدوام. و كان الملك الحق المبين، الذي كل شيء هالك إلا وجهه سبحانه أولى بالتحيات كلِّها من جميع خلقه، و هي له بالحقيقة و هو أهلها ؛ و لهذا فُسرت التحيات بالملك، و فسرت بالبقاء و الدوام، و حقيقتها ما ذكرته، و هي تحيات المُلك و المَلك و المليك. فالله سبحانه هو المتصف بجميع ذلك، فهو أولى به فهو سبحانه المَلك، و له المُلك، فكل تحية تحي بها ملك من سجود أو ثناء، أو بقاء، أو دوام فهي لله على الحقيقة ؛ و لهذا أتى بها مجموعة معرَّفة بالألف و اللام إرادة للعموم، و هي جمع تحية، تحيا بها الملوك، و هي " تُفعُلة " من الحياة، و أصلها " تحييه " على وزن " تكرمه "، ثم أدغم إحدى اليائين في الآخر فصارت " تحيَّة " فإذا كان أصلها من الحياة، و المطلوب منها لمن تحي بها دوام الحياة، كما كانوا يقولون لملوكهم: لك الحياة الباقية، و لك الحياة الدائمة. و بعضهم يقول: عش عشرة آلاف سنة. و اشتق منها: أدام الله أيامك أو أيامه، و أطال الله بقاءك. و نحو ذلك مما يراد به دوام الحياة و الملك، فذلك جميعه لا ينبغي إلا لله الحي القيوم الذي لا يموت. الذي كل مَلكٍ سواه يموت، و كل مُلك سوى ملكه زائل.