عبودية السجود
فصل
أسرار الصَّلاة للإمَام العلامَة ابن قيِّم الجَوزيَّة
ثم شرع له أن يكبر و يدنو و يخرَّ ساجدا، و يُعطي في سجوده كل غضو من أعضائه حظَّه من العبودية، فيضع ناصيته بالأرض بين يدي ربه، مسندة راغما له أنفه، خاضعا له قلبه، و يضع أشرف ما فيه ـ و هو وجهه ـ بالأرض و لاسيما وجه قلبه مع وجهه الظاهر ساجدا على الأرض معفِّراً له وجهه و أشرف ما فيه بين يدي سيِّده، راغماً أنفه، خاضعاً له قلبه و جوارحه، متذلِّلاً لعظمة ربه، خاضعاً لعزَّته، منيباً إليه، مستكيناً ذلاً و خضوعاً و انكساراً، قد صارت أعاليه ملويةً لأسافله. و قد طابق قلبُه في ذلك حال جسده، فسجد القلب للرب كما سجد الجسد بين يدي الله، و قد سجد معه أنفه و وجهه، و يداه و ركبتاه، و رجلاه فهذا العبد هو القريب المقرَّب فهو أقرب فهو ما يكون من ربه و هو ساجد. و شرع له أن يُقلَّ فخذيه عن ساقيه، و بطنه عن فخذيه و عَضُديه عن جنبيه، ليأخذ كل جزءٍ منه حظّه من الخضوع لا يحملَ بعضه بعضاً. فأحرِ به به في هذه الحال أن يكون أقرب إلى ربه منه في غيرها من الأحوال كلِّها، كما قال النبي صلى الله عليه و سلم: " أقربُ ما يكونُ العبدُ من ربَّه و هو ساجدٌ ".[رواه مسلم (482) عن أبي هريرة رضي الله عنه]. و لما كان سجود القلب خضوعه التام لربّه أمكنه استدامة هذا السجود إلى يوم القيامة، كما قيل لبعض السلف: هل يسجد القلب؟