باب القناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة والإنفاق
باب القناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة والإنفاق
تطريز رياض الصالحين
قال تعالى: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا} [البقرة (273)].
----------------
أي: الأولى بالصدقات الفقراء المقيمون على طاعة الله، المتعففون عن السؤال. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: استغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره.
باب القناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة والإنفاق
تطريز رياض الصالحين
قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون} [الذاريات (56، 57)].
----------------
أي: ما خلق الله الجن والإنس إلا لأجل عبادته وحده، لا شريك له، وليس محتاجا إليهم كما يحتاج السادة إلى عبيدهم، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال الله تعالى: يا ابن آدم، تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإلا تفعل، ملأت صدرك شغلا، ولم أسد فقرك». رواه أحمد. وفي بعض الكتب الإلهية: ابن آدم خلقتك لعبادتي، فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب، فاطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل خير، وإن فتك فاتك كل خير، وأنا أحب إليك من كل شيء».
باب القناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة والإنفاق
تطريز رياض الصالحين
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس». متفق عليه.
----------------
«العرض» بفتح العين والراء: هو المال. أي: ليس حقيقة الغنى كثرة المال مع الحرص، وإنما الغني من استغنى بما آتاه الله، وقنع به، وإنما كان الممدوح غنى النفس، لأنها حينئذ تكف عن بث المطامع فتعز. وقال الشاعر: ومن ينفق الساعات في جمع ماله...؟؟... مخافة فقر فالذي فعل الفقر...؟؟؟ وقال بعض العارفين: رضينا بقسمة الجبار فينا...؟؟... لنا علم وللجهل مال...؟؟؟؟ فإن المال يفنى عن قريب...؟؟؟... وإن العلم كنز لا يزال...؟؟
باب القناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة والإنفاق
تطريز رياض الصالحين
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنعه الله بما آتاه». رواه مسلم.
----------------
الكفاف: ما كف عن السؤال مع القناعة. وفي الحديث: شرف هذه الحال على الفقر المسهي، والغنى المطغي.
باب القناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة والإنفاق
تطريز رياض الصالحين
عن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: «يا حكيم، إن هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى». قال حكيم: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر - رضي الله عنه - يدعو حكيما ليعطيه العطاء، فيأبى أن يقبل منه شيئا، ثم إن عمر - رضي الله عنه - دعاه ليعطيه فأبى أن يقبله. فقال: يا معشر المسلمين، أشهدكم على حكيم أني أعرض عليه حقه الذي قسمه الله له في هذا الفيء فيأبى أن يأخذه. فلم يرزأ حكيم أحدا من الناس بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى توفي. متفق عليه.
----------------
«يرزأ» براء ثم زاي ثم همزة؛ أي: لم يأخذ من أحد شيئا، وأصل الرزء: النقصان، أي: لم ينقص أحدا شيئا بالأخذ منه، و «إشراف النفس»: تطلعها وطمعها بالشيء. و «سخاوة النفس»: هي عدم الإشراف إلى الشيء، والطمع فيه، والمبالاة به والشره. قال الحافظ: إنما امتنع حكيم من أخذ العطاء، مع أنه حقه، لأنه خشي أن يقبل من أحد شيئا، فيعتاد الأخذ فيتجاوز به إلى ما لا يريده ففطمها عن ذلك وترك ما لا يريبه خوف ما يريبه.
باب القناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة والإنفاق
تطريز رياض الصالحين
عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزاة ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه، فنقبت أقدامنا ونقبت قدمي، وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع لما كنا نعصب على أرجلنا من الخرق، قال أبو بردة: فحدث أبو موسى بهذا الحديث، ثم كره ذلك، وقال: ما كنت أصنع بأن أذكره! قال: كأنه كره أن يكون شيئا من عمله أفشاه. متفق عليه.
----------------
في هذا الحديث: ما كان فيه الصحابة رضي الله عنهم من الشدة والضيق، فصبروا حتى كانت العقبى الطيبة لهم في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا... يوقنون} [السجدة (24)]. وفيه: كراهية إفشاء العمل الصالح إلا إذا ترتب على ذلك مصلحة.
باب القناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة والإنفاق
تطريز رياض الصالحين
عن عمرو بن تغلب - بفتح التاء المثناة فوق وإسكان الغين المعجمة وكسر اللام - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بمال أو سبي فقسمه، فأعطى رجالا، وترك رجالا، فبلغه أن الذين ترك عتبوا، فحمد الله، ثم أثنى عليه، ثم قال: «أما بعد، فوالله إني لأعطي الرجل وأدع الرجل، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي، ولكني إنما أعطي أقواما لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، منهم عمرو بن تغلب» قال عمرو بن تغلب: فوالله ما أحب أن لي بكلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمر النعم. رواه البخاري.
----------------
«الهلع»: هو أشد الجزع، وقيل: الضجر. في هذا الحديث: ائتلاف من يخشى جزعه، أو يرجى بسبب إعطائه طاعة من يتبعه. وفيه: أن الرزق في الدنيا ليس على قدر درجة المرزوق في الآخرة. وفيه: أن الناس جبلوا على حب العطاء، وبغض المنع، والإسراع إلى إنكار ذلك قبل الفكرة في عاقبته، إلا من شاء الله. وفيه: أن المنع قد يكون خيرا للمنوع، كما قال تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم} [البقرة (216)]. وفيه: الاعتذار إلى من ظن ظنا والأمر بخلافه.
باب القناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة والإنفاق
تطريز رياض الصالحين
عن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله». متفق عليه. وهذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم أخصر.
----------------
اليد العليا: المنفقة؛ والسفلى: السائلة، ومعنى: خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى»، أي: أفضلها ما وقع بعد القيام بحقوق النفس والعيال، ومن يستعفف عن سؤال الناس «يعفه الله»، أي: يرزقه العفة، ومن يستغن ولا يسأل الناس يغنه الله.
باب القناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة والإنفاق
تطريز رياض الصالحين
عن أبي عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تلحفوا في المسألة، فوالله لا يسألني أحد منكم شيئا، فتخرج له مسألته مني شيئا وأنا له كاره، فيبارك له فيما أعطيته». رواه مسلم.
----------------
فيه: النهي عن الإلحاح في السؤال، وأنه لا يبارك له فيما أعطي، وقد قال الله تعالى مادحا أقواما لتعففهم: {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا} [البقرة (273)].
باب القناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة والإنفاق
تطريز رياض الصالحين
عن أبي عبد الرحمن عوف بن مالك الأشجعي - رضي الله عنه - قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال: «ألا تبايعون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» وكنا حديثي عهد ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: «ألا تبايعون رسول الله» فبسطنا أيدينا، وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله فعلام نبايعك؟ قال: «على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، والصلوات الخمس وتطيعوا الله» وأسر كلمة خفيفة «ولا تسألوا الناس شيئا». فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدا يناوله إياه. رواه مسلم.
----------------
فيه: الحث على مكارم الأخلاق، والترفع عن تحمل منن الخلق، وتعظيم الصبر على مضض الحاجات، والاستغناء عن الناس، وعزة النفس. وفيه: التمسك بالعموم لأنهم نهوا عن سؤال الناس أموالهم، فحملوه على عمومه. وفيه: التنزه عن جميع ما يسمى سؤالا وإن كان حقيرا.
باب القناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة والإنفاق
تطريز رياض الصالحين
عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مزعة لحم». متفق عليه.
----------------
«المزعة» بضم الميم وإسكان الزاي وبالعين المهملة: القطعة. فيه: النهي عن السؤال من غير ضرورة، وأنه يحشر يوم القيامة ووجهه عظم لا لحم عليه.
باب القناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة والإنفاق
تطريز رياض الصالحين
عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وهو على المنبر، وذكر الصدقة والتعفف عن المسألة: «اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا هي المنفقة، والسفلى هي السائلة». متفق عليه.
----------------
قال الحافظ: وللطبراني بإسناد صحيح عن حكيم بن حزام مرفوعا: «يد الله فوق يد المعطي، ويد المعطي فوق يد المعطى، ويد المعطى أسفل الأيدي».
باب القناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة والإنفاق
تطريز رياض الصالحين
عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن المسألة كد يكد بها الرجل وجهه، إلا أن يسأل الرجل سلطانا أو في أمر لا بد منه». رواه الترمذي، وقال: (حديث حسن صحيح).
----------------
«الكد»: الخدش ونحوه. فيه: قبح السؤال، ورخص في سؤال السلطان، لأن للسائل في بيت المال حق وكذلك السؤال للضرورة.
باب القناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة والإنفاق
تطريز رياض الصالحين
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله، فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل». رواه أبو داود والترمذي، وقال: (حديث حسن صحيح غريب).
----------------
«يوشك» بكسر الشين: أي يسرع. قال وهب بن منبه لرجل يأتي الملوك: ويحك، تأتي من يغلق عنك بابه، وتدع من يفتح لك بابه.
باب القناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة والإنفاق
تطريز رياض الصالحين
عن أبي بشر قبيصة بن المخارق - رضي الله عنه - قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسأله فيها، فقال: «أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها» ثم قال: «يا قبيصة، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة، فحلت له المسألة حتى يصيبها، ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش - أو قال: سدادا من عيش - ورجل أصابته فاقة، حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة. فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش، أو قال: سدادا من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت، يأكلها صاحبها سحتا». رواه مسلم.
----------------
«الحمالة» بفتح الحاء: أن يقع قتال ونحوه بين فريقين، فيصلح إنسان بينهم على مال يتحمله ويلتزمه على نفسه. و «الجائحة» الآفة تصيب مال الإنسان. و «القوام» بكسر القاف وفتحها: هو ما يقوم به أمر الإنسان من مال ونحوه. و «السداد» بكسر السين: ما يسد حاجة المعوز ويكفيه، و «الفاقة»: الفقر. و «الحجى»: العقل. في هذا الحديث: تحريم السؤال إلا في غرم، أو جائحة، أو فاقة.
باب القناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة والإنفاق
تطريز رياض الصالحين
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس». متفق عليه.
----------------
أي: ليس المسكين الكامل المسكنة الممدوح هذا الطواف، ولك المسكين المتعفف الذي لا يجد غني يغنيه عن المسألة، ولا يفطن له، لكتم حاله، فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس، ولا يستطيع ضربا في الأرض، {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا}.