العقل مُنصف لولا تدليس النفس، ولهذا جاء الوحي ليحميه منها.

{خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } النحل 4، هذه بداية خلقه، وهذه نهايته، ففي أي مرحلة تأهل لمخاصمة الله ومنازعته في حكمه؟ إنه لؤم البشر.

لو كان للإنسان قلب بلا نفس ولاهوى لما كفر بشئ من شرعة ربه ولكن القلب يهديه والنفس تطغيه حتى تجعله ينكر ما تراه عينه {إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ} الزخرف 15.

العقل ميزان، لا يصح الوزن فيه وقد أماله الهوى، جرّد كفتيه من كل شائبةٍ ومن ميلِ الهوى لأحدهما، حتى تصح نتائجه.

لو كان للإنسان قلب بلا هوى لما كفر بشيء من حكم الله، ولكن قلبه يهديه وهواه يطغيه حتى يكفر بالحق البيّن ليُشبع هواه {إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ} الزخرف 15.

لو اجتمع الدليل و العقل بلا مؤثرات و دواخل عليهما لخرج بنتيجة كشمس الظهيرة، و لكن تأتي العقول إلى الدليل متأثرة بالهوى فتخرج بنتيجة مشوهة.

لو تُرك (العقل) بلا مؤثر لسار إلى الله ولكن (الهوى) يحرف طريقه، ويُكرِهه ليؤصل للنفس شهواتها {ولَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّه} ص 26.

لا يوجد صراع بين العقل والنقل، إنما الصراع مع هوى يتستر بالعقل، ويتحدّث باسمه.

أحكام الله تختصر على الإنسان نتائج تفكيرٍ طويل، العقل يريد التأمل والنفس تغلبه فتريد الاستعجال والتجربة فتختل نتيجة عقله ويظن أنه صادم الشرع.

العقل يخلط بين تحليل المشاهد والغيبي، فتخرج له نتائج حق ممزوج بباطل أو باطل ممزوج بحق، والعقل يظن الغيب كالنهر فيسبح فيه وهو بحر لُجيٍّ.

عجبت من اجتماع العقل والسمع والبصر واليد وانكبابها عند الكتابة ومع ذا يحتاج أحذق الكتاب إلى ورق مسطر يهديه حتى لا ينحرف سطره فكيف يريد الوصول بهذا العقل المجرد بلا انحراف في طريق ممتد أوله عنده ونهايته عند ربه من غير أن يرسمه الله له {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} الانعام 153.

إذا حذرك من يراك من فوق من خطر طريقك توقفت لقصور بصرك وكذا العقل قاصر في إدراك بعيد أمرك كما قصر بصرك عن إدراك بعيد طريقك ولله كمال العلو.

العقل يرى متناقضات فيتحيّر، وربما ألحد، ويغفل عن أن التناقضات إنما هي فيما يرى هو فقط لا في كل الحق، فربما كان في الغيبيات ما يقلب المعادلات.

إذا كان الإنسان لا يؤمن إلا بما يراه حقاً بنفسه ولو خالف أمر ربه، فما الفائدة من إرسال الرسل وإنزال الكتب إذا كان عقله يكفيه؟!

لو جعل الله كل ما يدركه العقل تصل اليه اليد والقدم ثم فقصر نطاق العقل او زاد قدرة اليد والقدم لتتساويا مع العقل لما اقر بعبودية الله كبير احد.

جعل الله عقل الإنسان أوسع من طاقة بدنه، فيرى ويتأمل ما لا يستطيع الوصول إليه بيديه وقدميه، حتى يدرك ضعفه وهوانه بنفسه، فلا يتكبر على خالقه، ومع هذا يتكبر على خالقه،

من الجو ترى انحراف الطرق الطويلة ولايراه سالكها ولله المثل الأعلى يرى التواء الأفكار ويحذر سالكيها وهم يرونها على الأرض مد البصر ويقولون: مستقيمة.

مقدار علم الإنسان يقارب حجمه في الكون فإذا كان لا يستطيع بسط يده على الكون فلن يقدر على بسط عقله، فإذا أمره الله فليُسلّم ولو جهل الحكمة.

منح الله العقل للإنسان ليسير به لا ليعترض عليه، فإن سار به ورأى غير مراد الله فليُكذّب عقله وليصدق ربه، فللعقل سراب يتوهمه كما تتوهمه العين.

القاعدة الكونية أن ما أصله الثبات لا ينتفع منه إلا بنقله كالحجر،،وما أصله الإنفلات ينتفع بتثبيته وتقييده كالعقل والماء.

جاء العقل ليضبط النفس، وجاء الوحي ليضبط العقل، واختلال هذا النظام اختلال الدين والدنيا.

الوحي جاء ليضبط العقل، والنفس تدعوه أن يتمرد، النقل علم الخالق.. والعقل علم المخلوق.. فمن يقود من؟!

لا يمكن ان يصح حكم الانسان على ما لا شبيه له في ذهنه، لأن عقله انعكاس للمادة، لذا عرف الله نفسه للأنسان فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} الشورى 11، فلا يكيف حتى يرى.

يتغير حكم الإنسان عند تحوله من بيئة إلى أخرى لأثر المشاهدة مع أنها بيئة دنيوية تتشابه، فكيف يكون حكمه على ما لا شبيه له كصفات الله والقيامة.

{بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ } يونس 39، كذب كفار قريش محمدا انه اسري به في ليلة الى الاقصى وزعموا جنونه، واليوم من يكذب إمكان ذلك للبشر فهو متخلف، العقول تتقاذف الجنون والتخلف كل أهل زمن يرمون به الآخر بحسب ما يرون من أجزاء الحق، والحق مسور بحائط ممتد والعقول تطل عليه من خلال ثقوب فيه، كل يصدق ما يراه فقط ويكذب ما عداه، والوحي يخبر عما في الحائط من فوق.

تتغير قناعة الإنسان كلما تقدم سنا وكل واحد يحاكم شرع الله على ما توقفت عجلة عمره عليه والله لايؤثر على علمه الزمن يعلم الحقائق لأنه من وضعها.

حوادث الكون كلها تدل على صدق الوحي، ولكن عمر الإنسان قصير عن رؤيتها، يولد في نهاية حوادث ويموت في بداية أخرى فيجهل حكمة الله فيعاند ويكفر.

يعترضون على الوحي بالرأي، وإذا أردت أن تجمعهم على رأي واحد ما اجتمعوا عليه ! {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} النساء 82.

مقدار علم الإنسان يقارب حجمه في الكون فإذا كان لا يستطيع بسط يده على الكون فلن يقدر على بسط عقله، فإذا أمره الله فليُسلّم ولو جهل الحكمة.

كل الأمم المعاندة واجهت الوحي بالعقل بحجج ونظريات عقلية مختلفة متعددة والوحي واحد، فإذا كان العقل له مواجهة الوحي فأي هذه العقول هو الصحيح.

كل الأمم خالفت الوحي بالعقل بزعمها، وكل أمة تختلف نتيجة عقلها عن الأخرى، وأما حق الوحي فواحد ثابت دوماً، ولن تجتمع العقول إلا عليه.

يرمي الإنسان بالسهم في ظلمة الليل فلا يبصر مواقع نبله، ويرمي العقلُ بالرأي في ظلمات الغيب ويدعي أنه أصاب الحق ولو خالف أمر الله !

يتيه العقل في الأرض مع كثرة معالمها وهو يرى فيها ويسمع، ثم هو يُريد أن يحسم أمر الغيب على خلاف مراد الله ولم يشهد من معالم الغيب شيئاً !.

الإنسان ضعيف، فهو لا يُدركُ ما حوله إلا بكُلفة، فهو لا يعرف ما يكون خلف ظهره إلا باستِدارتِه، ولا ما في جَيبِهِ حتى يُخرجَه ليَراه، ولا حلاوة طعامه ومرارته إلا بأكله، يتفحص الكون بحواسه، ثم يخاصم الله في أمر الغيب والسماء.

لا يوجد عقلان يتفقان في كل شيء ولو تساويا في النسب والعلم والسن والبيئة، لن يحسموا الماديات وهم يرونها فكيف يحسمون الغيب لذا جاء القرآن يفصل.

يختار العقل رأياً بقناعة ويُسفِّه غيره، ثم يترك قناعته الى الرأي الذي سفهه، عقل حكم على نفسه بالسفه يوماً كيف يصلح أن ينازع الله في حكمه.

جاء إليّ يُناظر ويخاصم الله في حِكَم تشريعاته، ثم قام ولبس حذائي خطأً وخرج، قلت: لم تُبصر موضع قدميك وتخاصم الله في مواضع الغيب.

رأيت من يبحث عن قلمه وهو في يده ولم يجده حتى نُبّه، كيف بعقل يفقد ما في يده يجادل الله في علل غيبه التي لم يرها {وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} الكهف 54.

نفس الإنسان تهتم وتضيق ولا يجد العقل سبباً لذلك، غيّب الله عنه علم نفسه، ليُعلمه أنه في علم غيره أجهل {وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} الذاريات 21.

خلق الله الإنسان ولم يستأذنه، فكيف يُريد من لم يُستأذن في نفسه أن يُستأذن في غيره من تشريعات الله وحِكَمه وأحكامه.

كتب العقل تفتح العقل وتغلق القلب وكتب النقل تفتح العقل والقلب وبهما تعرف الحقيقة الشرعية ؛ فالنقل علم الخالق الكامل والعقل علم المخلوق القاصر.

باجتماع العقل والنقل تُعرف الحقيقة الشرعية، وإذا تعارضا قُدّم النقل على العقل، لأن النقل علم الخالق الكامل، والعقل علم المخلوق القاصر.

العقل حاسّة إدراك له حدّ، كالسمع لا يميز الهمس ولا يُطيق الضجيج وكالبصر لا يرى الذرة وتعميه الشمس، والعقل في الغيب يتخبط وفي الشهادة يحتار.

العقل لا يستطيع إدراك كل شيء كالبصر لا يستطيع رؤية شمس الظهيرة لأنها فوق طاقته، لله أوامر غيبية يجب أن يغض العقل عنها كما تغض العين عن الشمس.

القرآن كالضياء والعقل كالبصر، قد يتحسس المبصر في الظلام ويسير، ويصيب الملحد بالتفكير، ولكن لا بد أن يسقطا.

العقل كالبصر والنقل كالنور، البصرُ إذا واجه النورَ احترق، وإذا استضاء به انتفع.. وهكذا العقل مع النقل خُلق ليسير خلفه لا ليواجهه.

العقل مع الوحي كالبصر مع الشمس الوحي ينير الطريق والعقل يسير والسير بلا نور تيه والوحي بلا تدبر قصور {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} النحل 44.

الوحي مع العقل كالنور مع البصر، إذا زاد العلم بالوحي مشى وإذا نقص ضل وعثر {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} الملك 22.

الإسلام عظّم العقل وكرّمه، ومن تكريمه أن منعه من الخوض فيما لا يحسنه، حتى لا يكثر منه الخطأ والزلل فتذهب هيبته، لهذا جاء الوحي يهديه ويحميه.

الإسلام لم يُعطّل العقل بالنقل، وإنما جعله كالبصر مع النور، ومن سار ببصر بلا نور هوى وعثر.

يُقدس الإنسان العقل حدّ العصمة، وأكثر كلام يومه عن أمسه (لو) (وليتني فعلت وقلت) يعبد عقل اليوم ويسب عقل الأمس، وعقله في اليومين واحد.

العقل والنفس يتصارعان، فإذا ركب عقلُ الإنسان النفسَ اهتدى، وإذا ركبت النفس العقل غوى

تهذيب النفوس قبل تصحيح العقول، لأن العقل مُنصف لو تركته النفس ولم تدس فيه هواها، ولذا كثيراً ما يمدح الله العقل ويذم النفس.

من ساقت عاطفتُه عقَله وضع آراءه في غير موضعها، فإذا زالت العاطفة تغيّر، وظن أنه زاد علماً والحق أنه نقص عاطفة، وعلمه لم يتغير.

كل من أحببتَه لغير عقله لقرابته أو إحسانه أو جماله أو جاهه فيجب أن تتوقف قبل القناعة برأيه لأن النفس تخلط معه بين إقدام العاطفة وإقدام العقل.

النفوس تأخذ من العلوم ما تهوى كما تأخذ اليد من الطعام ما تهوى، فتمرض العقول كما تمرض الأبدان، لأن ما كل ما تستحليه النفوس والأيدي نافع لها.

مرض العقول أخطر من مرض الأبدان، وعَدْواه أشد فتكاً وأسرع انتشاراً {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} التوبة 125.

جعل الله عقل الإنسان أوسع من طاقة بدنه، فيرى ويتأمل ما لا يستطيع الوصول إليه بيديه وقدميه، حتى يدرك ضعفه وهوانه بنفسه، فلا يتكبر على خالقه.

لا شيء أطغى من العقل على صاحبه، يرى النار ثم يقول ملتمساً من ربه: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} الانعام 27، ثم لو رجع {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} الانعام 28.

عجباً لأمر العقول حينما تُضل أصحابها لهوى النفس تكبراً وعناداً.. فقد اتخذ كفار قريش ربّاً من (حجر) ولما نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك رفضوه لانه بشر.

لا بُد أن يَصْرع العقل صاحبه يوماً برأي خطأ.. ليُثبت الله له أن عقله الذي يقوده مُنقاد لخالقه، إن شاء كفاه وإن شاء أرداه.

أكمل الناس عقلا أبعدهم نظرا للغايات، وتقصر الغاية كلما نقص العقل، وللمجنون غاية يعرف كيف يأخذ الإناء ليشرب لكن لا يدري أين يضعه إذا فرغ منه.

العقول تُحسن في تدبير البدايات، وتضل في تقدير النهايات.

العقل يسير في الفكر كما تسير القدم في الأرض يكبو ويتعثر، وإذا رفع الله عونه عن العقل الحاذق تردى في حفر الضلال كما تتردى قدم الإنسان البصير.

العقل طاحون المعرفة، فلا ينبغي أن يُهدر بطِحن ما لا ينفع، فكيف بإدارته في الهواء.. وكثيراً ما تسمع جعجعة لبعض العقول ولا تر لها طِحنا.

العقل إناء لن يُعطيك إلا ما تُعطيه، ومن أراد منه عطاء الحق فليملأه بالوحي.

العقل وعاء خُلق ليُملأ، فإن لم تُبادره بالخير، بادره الشيطان بالشر.

كونك صاحب عقل لا يعنى أنك تعقل: {وَلقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا منَ ٱلجِنِّ وَالْإِنسِ لَهمْ قلُوبٌ لَّا يَفْقهُونَ بِهَا وَلَهمْ أَعينٌ لَّا يُبصِرُونَ بها وَلَهمْ ءَاذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بهَآ} الأعراف 179.

كل حواس الإنسان الخمس تتفوق فيها عليه البهائم لكنه يتغلب عليها جميعها بواحد ألا وهو العقل، فإن ضيعه غلبته البهائم {أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} الأعراف 179.