يستدلون على صحة الشيء بأن الناس تستنكره ثم تألفه، وينسون أن الأنبياء لم يبعثوا الا على منكرات لم ألفها أهلها شركا ولواطا وزناً ورباً.

الاغترار بالكثرة، وربط الحق بها خطأ انحرفت به أمم سابقة، لغة الارقام تستعمل كثيرا كما استعملها الجاهليون. قال الله عز وجل: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ} الانعام116.

كثرة الفاعلين للشر لا يجعله خيرًا، وترك الناس للحق لا يجعله باطلاً، فالحق حق وإن تركه الناس والباطل باطل وإن فعلوه.

يهرب البعض من الحق لقلة أهله واغترارا بكثرة أهل الباطل، فسبحان من ثبت أنبياءه على وحشة التفرد بالحق، وثبت أبا بكر تابعاً وحيداً لمتبوع واحد.

لو كان رأي الأكثرية مقدما لكان قوم لوط أولى من لوط وفرعون أولى من موسى وأبو جهل أولى من محمد، الأكثرية معتبرة لكن إذا كانت ضد الحق صارت صفرا.

الاعتداد لا يكون بالكثرة وإنما بقوة الإيمان ووضوح الحجة والبرهان {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} التوبة 25.

الحق ليس شعاراً يتقلده الأكثر، فالله لا يذكر أمةً في كتابه إلا ذكر أن (أكثرهم) على ضلال وقد كرر في كتابه ذلك في نحوٍ من سبعين موضعاً.

الحق لا يتأثر بكثرة المخالفين له إلا عند ضعيف الإرادة قوي الهوى. {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} الفرقان 50.

الحق مستقل في ذاته، لا يوجد أينما وجدت الكثرة، ولو كانت القرون كتاباً في يد الإنسان يقلبه كل صفحة قرناً، ولكل قرن أكثرية هل سينقلب الحق مع تقلُّب يده؟!

يقولون أكثر الناس على هذا. الحق لا يعرف عدد الأتباع، فلكل زمن أكثرية ترى رأياً يختلف عن رأي الزمن الذي يليه فهل الحق يتقلب بحثاً عن الأكثر؟!

يُقال: أكثر الناس والمجتمعات تفعل هذا ! ما الفرق بين من يقول هذا وبين حجة الأمم على الأنبياء؟ والله يبيّن أن {أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} هود 17.

لم أر حجة عند أحد في تقرير الخطأ إلا وهي بنفسها عند السابقين، ولكن تختلف اللغة ويتباين الأسلوب، ويتغاير الخطأ المراد تحقيقه.

العقل لا تتجدد حججه في رد الوحي، فحججه هي حجج قوم نوح وعاد وثمود وإبراهيم ولوط وموسى وعيسى ومحمد ولكن تتجدد الصياغة.

حجج الضلال مكررة ولكن ينخدعون بتجديد صياغتها فتتكرر أخطاء الأمم {كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ۘ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ۗ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} البقرة 118.

عدم اقتناع الناس بالحق يجب أن لا يزيل إيمانك به فبعض الرفض عناد ولن تكون أقوى حجة من الأنبياء {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ} آل غعمران 184.

اعظم ادلة الكون أدلة وجود الله ثم نا زعوا فيها وجحدوها ولن تدلل على حجتك كما دلل الله على حقه فإذا ثبت الحق عندك فلا يصدنك عنه المخالفون.

إذا لم يقتنع المخالف لك بالحق فلا يعني أن قولك خاطئ فبعض الأنبياء لم يؤمن به أحد، غيّر الأسلوب ولكن لا تغير المبدأ الحق بحثاً عن الأتباع.

الهوى يُعمي عن رؤية الدليل، ومهما بلغ وضوحاً فإن النفس تراه ضعيفاً وربما لا تراه {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ} هود 53.

الماديون تغيب عنهم قوّة الحجة والحق، ظنت كفار قريش نهاية النبي صلى الله عليه وسلم بموته حيث لا يولد له ذكور، ووصفوه بالأبتر، فخلد الله ذكره وأماتهم بذرياتهم.

إذا أردت تبيان انحراف الفرق والمذاهب الضالة فتحتاج إلى الأدلة النقلية أكثر من العقلية إلا مذهب الرافضة فيكفيك العقل.

لا تناظر أهل الباطل ولو ملكت الحجة حتى تُجيد استعمالها، ليس خوفاً على الحق وإنما خوفا عليك، فقد يُقتل الإنسان بالعصا، وبيده سيف لا يُحسنه.

الحجة التي تعجز عن إيضاحها للناس سكوتك خيرٌ من حديثك بها، حجة مريم قوية لكن إيضاحها منها للعقل صعب {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} مريم 26.

بعض الآراء الباطلة تردها الحجة، وبعضها تكفيها الاستعاذة لأنها من وحي الشيطان {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} الآنعام 121.

قد تظهر حجة قوية من ضال جاهل ؛ فهي ليست منه بل املاء من الشيطان له: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} الآنعام 121، لذلك تستحب الاستعاذة عند جدالهم.

{وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} الزخرف 48، عند المحاججة والإقناع تؤجل الحجج القوية ويبدأ بأدناها حتى ترمي العقول بشبهاتها كلها فتقع القوية فوقها.

أكثر المناظرات ليس لبيان الحجة وإنما للإقرار بها فالحجة بينة والعناد في فهمها، قال أبو يوسف: إثبات الحجة على الجاهل سهل ولكن إقراره بها صعب.

بين الأذهان مسافات كالأبدان إذا لم تتقارب لا تسمع، لا تطرح حجة مع عقل بعيد عنك لا يرى حجتك، فلن يفهم تحريم الاختلاط من هو بعيد عنك يحل الزنا.

يتعامل الناس مع الحجج كالصناع مع المعادن يكيفونها كما يريدون ومن عرف جوهر المعدن ونوعه واصله عرف قدر النار الذي تذيبه مهما تنوع وتشكل.

أقوال الباطل والتدليس ولو كثرت لا تقاوم حجج الحق وبراهينه {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} التوبة 32.

ليست العبرة بوجود الحجة، فعُبّاد الحجر والكواكب والبقر والفأر لديهم حجج من العقل والمنطق يرونها قوية، ولكن العبرة بموقف الوحي من الحجة.

لن تكون حجتك وجيهة لأنك شخص وجيه.

كل حجة ربانية يتوقف في الإيمان بها الإنسان تجده يؤمن بحجة أدنى منها إذا كانت لصالحه وهذا شح الأفكار {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} النساء 128، هواها الميال بالحجج.

شح النفوس حتى في الحُجَج... فترى رأيها قويًّا وإن ضَعُف، ورأي غيرها ضعيفاً وإن قوي ! {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} النساء 128.

من لم يكتف بالقرآن حجة على الحق، لم تزده العقول إلا حيرة {أََوَلَم يَكفِهِم أنَّا أَنزَلنَا عَليكَ الكِتَابَ يُتلَى عليهم} العنكبوت 51.

القوة لا تصنع الحق، ولكن الحق يصنع القوة.

الحق يثبت بالحجة لا بالقوّة {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} الأنفال 7،.. القوّة تحمي الحق وتحرسه لا تغرسه.

بقدر وضوح طريق الحق لدى الإنسان، تكون الحجة قائمة عليه أقوى، وكلما كانت البينة ظاهرة للإنسان المفرط، كان نزول العقاب عليه أشد،وإذا كانت الحجة ضعيفة في عقله كان نزول العقاب أقل وإذا انعدمت الحجة والبيان، لم يكن ثمة عقاب، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا} الاسراء 15.

ميزة الإنسان عن الأنعام فهم الحجج واتباعها وليس سماعها فقط، لأن الكل يسمع {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ} الفرقان 44.