من دلائل وجود الله
فائدة
هذه المخلوقات والحوادث لها خالق خلقها ومحدث أحدثها وهو الرب العظيم الخالق لكل شيء، المتصرف في كل شيء، المدبر للأمور كلها، ولهذا نبه الله على هذا التقسيم العقلي الواضح لكل عقل: " أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ " الطور آية 35، 36، فالمخلوق لابد له من خالق، والأثر لابد له من مؤثر، والمحدث لابد له من محدث، والموجد لابد له من موجد، والمصنوع لابد له من صانع، والمفعول لابد له من فاعل. هذه قضايا بديهية جلية يشترك في العلم بها جميع العقلاء، وهي أعظم القضايا العقلية. فمن ارتاب فيها أو شك في دلالتها فقد برهن على اختلال عقله وضلاله.
فائدة
تفكر في نفسك وانظر في مبدء خلقك من نطفة إلى علقة إلى مضغة حتى صرت بشراً كامل الأعضاء الظاهرة والباطنة. أما يضطرك هذا النظر إلى الاعتراف بالرب القادر على كل شيء، العليم الذي أحاط علمه بكل شيء، الحكيم في كل ما خلقه وصنعه، فلو اجتمع الخلق كلهم على النطفة التي جعلها الله مبدأ خلقك على أن ينقلوها في تلك الأطوار المتنوعة ويحفظوها في ذلك القرار المكين، ويجعلوا لها سمعاً وبصراً وعقلاً وقوى باطنة وظاهرة، وينموها هذه التنمية العجيبة. ويركبوها هذا التركيب المنظم، ويرتبوا الأعضاء هذا الترتيب المحكم، لو اجتمعوا على ذلك فهل في علومهم، وهل في اقتدارهم، وهل في استطاعتهم الوصول إلى ذلك؟ فهذا نظر يوصلك إلى الاعتراف بعظمة الله واقتداره والخضوع له والتصديق بكتبه ورسله، وهو دليل وبرهان عقلي وفطري اضطرت فيه الفطر إلى معرفة ربها وعبوديته.
فائدة
تأمل في حفظ الله للسموات والأرض وما فيهما من العوالم وفي إبقائها وإمدادها بكل ما تحتاج إليه في بقائها من الأسباب المتنوعة، أما يدلك ذلك على كمال الرب وكمال قوميته وربوبيته؟ وقد نبه تعالى على ذلك بقوله " وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ " سورة الروم آية 25، " إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا " سورة فاطر آية 41.
فائدة
وانظر هداك الله إلى أنه أعطى كل شيء خلقه اللائق به، ثم هدى كل مخلوق إلى مصالحه وحوائجه وضروراته، حتى البهائم العجم صغيرها وكبيرها قد ألهمها وهداها لكل أمر فيه نفعها، ويسر لها أرزاقها وأقواتها فمن نظر في هدايته العامة، وبثه في كل مخلوق إلهاماً عجيباً يهتدي به إلى منافعه وضروراته، علم بذلك عنايته العظيمة، وعلم أنه الرب لكل مربوب الخالق لكل مخلوق، الذي علم المخلوقات وأعطاها من الأذهان ما يصلحها ويدفع عنها المضار، وذلك برهان عقلي عظيم على وحدانية الله وكماله، ولذلك لما أنكر فرعون رب العالمين وقال: " فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى " طه آية 49، 50 فاستدل عليه بهذا البرهان المشاهد لكل أحد؛ فهل في طبيعة الحيوانات كلها هذه الهداية إلى مصالحها التي لا تحصى أنواعها، وحنوها على أولادها، وقيامها بهم حتى يستقلوا بأنفسهم؟ وهل هذا الحنان والرحمة إلا من أكبر الأدلة على عظمته وسعة رحمته التي وسعت كل شيء؟
فائدة
انظر رحمك الله إلى سعة رحمة الله التي ملأت أقطار العالم، وشملت كل مخلوق في كل أحواله، برحمته أوجد المخلوقات، وبرحمته حفظها وأمدها بكل ما تحتاج إليه، وأسبغ عليها النعم الظاهرة والباطنة التي لا يمكن مخلوقاً أن يخلو منها طرفة عين، وهي متنوعة عليه من كل وجه نعم العلم والتعليم لأمور الدين والدنيا، ونعم العافية للأبدان عموماً وللأعضاء كلها على وجه الخصوص، ونعم الأرزاق ونعم الأولاد والأتباع، ونعم الحروث والزروع والثمار، ونعم المواشي وأصناف الأمتعة، ونعم الدور والقصور، ونعم اللذات والحبور النعم التي فيها جلب المنافع كلها، والنعم التي فيها دفع المضار كلها، تدل أكبر دلالة على وحدانية مسديها والمنعم بها، وعلى وجوب شكره والإخلاص له " أَفَمَن يَّخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ " أفمن منه النعم كلها كمن هو فقير محتاج، مضطر؟ والله أعلم.
فائدة
انظر أحوال المضطرين الواقعين في المهالك والمشرفين على الأخطار والبائسين من فقرهم المفظع أو مرضهم الموجع، وكيف تضطرهم الضرورات وتلجئهم الحاجات إلى ربهم وإلههم داعين ومفتقرين، وسائلين له مستعطين فيجيب دعواتهم، ويكشف كرباتهم، ويرفع ضروراتهم، أليس في هذا أكبر برهان على وحدانيته وسعة علمه، وشمول رحمته، وكمال عطفه، ودقيق لطفه، " أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ " سورة النمل آية 62، " فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ " سورة العنكبوت آية 65.
فائدة
وانظر إلى فقر الخلائق كلهم على الله في كل شيء، فقراء إليه في الخلق والإيجاد، وفقراء إليه في البقاء والرزق والإمداد، وفقراء إليه في جلب المنافع وفي دفع المضار، فهم يسألون الله بلسان المقال، ولسان الحال، " يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ " فيعطيهم مطالبهم، ويسعفهم في كل مآربهم، إن رغبوا لم يرغبوا إلا إليه، وإن مستهم الضراء لم يلجأوا إلا إليه، فكم كشف الضر والكروب، وكم جبر الكسير ويسر المطلوب، وكم أغاث ملهوفاً، وكم أنقذ هالكاً، ففقرهم إليه في كل الأحوال ظاهر مشاهد، وغناه عنهم في جميع الأمور لا ينكره إلا مكابر جاحد.
فائدة
ومن براهين وحدانية الباري وربوبيته إجابته للدعوات في جميع الأوقات، فلا يحصي الخلق ما يعطيه السائلين، وما يجيب به أدعية الداعين من بر وفاجر، ومسلم وكافر تحصل المطالب الكثيرة، ولا يعرفون لها شيئاً من الأسباب، سوى الدعاء والطمع في فضل الله، والرجاء لرحمته وهذا برهان مشاهد محسوس، لا ينكره إلا مباهت مكابر، يدعونه في مطالب دينهم فيجيبهم، وفي مطالب دنياهم فيجيبهم " فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ * وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا " (سورة البقرة آية 200 – 202).
فائدة
ومن براهين وجود الله ووحدانيته وربوبيته ما يجريه الله على أيدي أنبيائه من خوارق الآيات والمعجزات والبراهين القاطعات، وما يكرمهم به في الدنيا وينصرهم، ويجعل لهم العواقب الحميدة، ويخذل أعداءهم ويعذبهم بأصناف العذاب وهذا قد تواتر تواتراً لا يتواتر شيء مثله، وكل أحد يعرف ذلك. وآيات الأنبياء ومعجزاتهم وكرامات الله لهم نقلتها القرون والأجيال وصارت أعظم من برهان الشمس والقمر، وهي كلها براهين على ربوبية من أرسلهم وعظمة سلطانه وكمال قدرته وسعة علمه وحكمته، وما ينكرها إلا كل متكبر جبار.
فائدة
ومن أعظم براهين وحدانيته ما أنزله على أنبيائه عموماً من الكتب والشرائع العظيمة التي فيها صلاح الخلق وبها استقام دينهم وصلحت دنياهم وخصوصاً هذا القرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم خاتمهم وإمامهم، وفيه من البراهين والآيات ما لا يعبر عنه المعبرون، ولا يقدر أن يصفه الواصفون وآياته قائمة في جميع الأوقات متحدية للخلق كلهم على اختلاف أصنافهم، وقد تبين عجزهم ووضح غيهم، " سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ " سورة فصلت آية 53، " وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ " سورة النحل آية 89. فمن نظر إلى ما احتوى عليه القرآن من الأخبار الصادقة والأحكام العادلة والشرائع المحكمة والصلاح العام وجلب المنافع الدينية والدنيوية ودفع المضار والخير العظيم، اضطر إلى الاعتراف بأنه تنزيل من حكيم حميد، ورب كريم.
فائدة
ومن براهين وحدانية الله أن الفطر والعقول مضطرة إلى معرفتها بباريها والاعتراف بوحدانيته، فإن الخلق مفطورون على جلب المنافع ودفع المضار؛ ومن المعلوم لكل عاقل أن حاجة النفوس إلى خالقها وإلهها أعظم من جميع الحاجات، وضروراتها إليه تفوق كل الضرورات، فهي مضطرة إلى علمها بأنه خالقها وحده، مالكها وحده ومبقيها وحده، وممدها بمنافعها وحده، " فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ " سورة الروم آية 30، ولم يخرج عن هذه الفطرة إلا من اجتالتهم الشياطين وحولت فطرهم وغيرتها بالعقائد الفاسدة والخيالات الضالة والآراء الخبيثة والنظريات الخاطئة، فلو خلوا وفطرهم لم يميلوا لغير ربهم، منيبين إليه في جلب المنافع ودفع المضار ومنيبين إليه في التأله والانكسار، قال صلى الله عليه وسلم: " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ حتى تكونوا أنتم تجدعونها " (رواه البخاري ومسلم وغيرهما).
فائدة
ومن براهين وحدانيته وكرمه ما هو مشهور في حوادث لا تعد ولا تحصى، من إكرام الله تعالى للواصلين لأرحامهم، وخلفه العاجل على المحسنين على المضطرين، والمنفقين لأجله على المحتاجين، وتعويضه لهم وفتحه لهم أبواباً وأسباباً وطرقاً بسبب ذلك الإحسان الذي له الموقع الطيب، وقد علم الخالق أن ذلك سببه تلك الأعمال الصالحة والمقدمات الحسنة، ألا يدلك ذلك على أن الله قائم على كل نفس بما كسبت، وأن هذا جزاء معجل وثواب حاضر، نموذج لثواب الآخرة؟ وأفراد ذلك ونوعه لا تدخل تحت الحصر، وهذا أمر لا يمتري فيه أحد قد رأى الناس من هذا عجائب
فائدة
العقوبات التي يعجلها الله للباغين والظالمين والمجرمين بحسب جرائمهم عقوبات يشاهدها الناس رأي العين ويعلمون ويتيقنون أن ذلك جزاء الجرائم. فمن تأمل وسمع الوقائع وأيام الله في الخلق وعلم ارتباطها بأسبابها الحسنة أو السيئة، علم بذلك وحدانية الله وربوبيته وكمال عدله وسعة فضله، فضلاً عن وجوده ووجوب وجوده، فإن كل ما دل على شيء من أوصافه أو أفعاله فإنه يتضمن إثبات ذاته ووجوب وجوده، وعلم استناد العوامل العلوية والسفلي إليه في إيجادها وإبقائها وحفظها وإمدادها وجميع أحوالها والله أعلم.
فائدة
واجتمع طائفة من الملاحدة ببعض أهل العلم أظنه أبي حنيفة قالوا له: ما الدلالة على وجود الصانع؟ فقال لهم دعوني فخاطري مشغول بأمر غريب قالوا له ما هو؟ قال: بلغني أن في دجلة سفينة عظيمة مملوءة من أصناف الأمتعة العجيبة، وهي ذاهبة وراجعة من غير أحد يحركها ولا يقوم عليها فقالوا له أمجنون أنت؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: إن هذا لا يصدقه عاقل. فقال لهم: صدقت عقولكم أن هذا العالم بما فيه من الأنواع والأصناف والحوادث العجيبة وهذا الفلك الدوار السيار يجري، وتحدث هذه الحوادث بغير محدث وتتحرك هذه المتحركات بغير محرك؟ فرجعوا على أنفسهم بالملام.
فائدة
واجتمع طائفة من الملاحدة ببعض أهل العلم أظنه أبي حنيفة قالوا له: ما الدلالة على وجود الصانع؟ فقال لهم دعوني فخاطري مشغول بأمر غريب قالوا له ما هو؟ قال: بلغني أن في دجلة سفينة عظيمة مملوءة من أصناف الأمتعة العجيبة، وهي ذاهبة وراجعة من غير أحد يحركها ولا يقوم عليها فقالوا له أمجنون أنت؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: إن هذا لا يصدقه عاقل. فقال لهم: صدقت عقولكم أن هذا العالم بما فيه من الأنواع والأصناف والحوادث العجيبة وهذا الفلك الدوار السيار يجري، وتحدث هذه الحوادث بغير محدث وتتحرك هذه المتحركات بغير محرك؟ فرجعوا على أنفسهم بالملام.
فائدة
وقيل لبعضهم: بم عرفت ربك؟ فقال: هذه النطفة التي يلقيها الفحل برحم الأنثى فيطورها الله من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى آخر أطوارها فيكون بشراً سوياً كامل الأعضاء الظاهرة والباطنة، له سمع يسمع به المسموعات، وبصر يبصر به، وعقل يهتدي به إلى مصالحه، ويدان يبطش بهما؛ ورجلان يمشي بهما، وله منافذ يدخل فيها ما يغذي البدن وينفعه، ومنافذ أخر يخرج منها ما يضره، وقد ركب هذا التركيب العجيب الذي لو اجتمعت الخلق كلهم من أولهم إلى آخرهم على إيجاد شخص واحد على هذا الوصف المحكم الغريب لعجزت معارفهم وقدرهم على ذلك، أليس ذلك دليلاً وبرهاناً على وجود الخالق وعظمته وكبريائه قلت: وقد كرر الله هذه الآية في كتابه في أساليب متنوعة.
فائدة
وقيل لبعضهم بم عرفت ربك؟ فقال: بنقض العزائم، ومعنى ذلك أن العبد يعزم عزماً مصمماً على أمر من الأمور وليس عنده فيه أدنى تردد، ثم بعد ذلك تنتقض همته وعزمه إلى أمر آخر قد يرى فيه مصلحته وما ذاك إلا لأن الله على كل شيء قدير، يصرف القلوب كما يدبر الأبدان وأنه لطيف بعبده فيصرفه عما يضره إلى ما ينفعه، ويدبر قلبه إلى ذلك.
فائدة
وسئل بعضهم بم عرفت ربك؟ فقال: كنت مكروباً فدعوته ففرج كربتي، وكنت فقيراً فسألته فأغناني، وكنت مريضاً فدعوته فشفاني، وكنت ضالاً عن الهدى فلطف بي وهداني، وليس هذا الأمر لي وحدي فكم له على عباده من أصناف النعم المشاهدة المحسوسة، من هذه الأنواع شيء كثير وهذا يضطر إلى معرفته والاعتراف بربوبيته وتربيته.
فائدة
وقيل لآخر بم يُعرف الله؟ فقال: بإيصاله النعم إلى خلقه وقت الحاجة والضرورة إليها، هذا الغيث ينزله وقت الحاجة ويرفعه إذا خيف منه الضرر وهذا الفرج يأتي بعد الشدة، والمطالب بعد الاضطرار إليها، وهذه أعضاء الإنسان وقواه يعطيه الله إياها شيئاً فشيئاً بحسب حاجته إليها. فهل يمكن أن تكون هذه الأمور صدفة بغير اتفاق، أم يعلم بذلك علم اليقين أن الذي أعطاهم إياها وقت الحاجة والضرورة هو الرب المعبود الملك المقصود؟.
فائدة
وقيل لبعضهم بأي شيء يعرف الله؟ فقال: يعرف بأنه علم الإنسان ما لم يعلم، خرج من بطن أمه لا يعلم شيئاً، فأعطاه آلات العلم ويسر له أسباب العلم، فلم يزل يتعلم أمور دينه حتى صار عالماً ربانياً، ولم يزل يتعلم أمور دنياه حتى صار ماهراً مخترعاً للعجائب، ويسر له كل سبب يوصله إلى ذلك، ومن عجيب الأمر أن اللوح إذا كتب فيه وشغل بشيء من الأشياء لم يسع غيرها، ولم يمكن أن يكتب فيه شيء آخر قبل محو ما كتب فيه أو لا، وقلب الإنسان لا يزال يحفظ من العلوم والمعارف المتنوعة، وكلما توسعت معارفه قويت حافظته واشتدت ذاكرته وتوسعت أفكاره، فهل هذه الأمور في طوق البشر وقدرتهم؟ أم هذا أكبر برهان على عظمة الله ووحدانيته وكماله وسعة رحمته؟
فائدة
وقيل لآخر بأي شيء يعرف الله؟ فقال: بانتظام الأسباب ثم بتحويله الأسباب ومنع مسبباتها، وبإيجاده الأشياء بغير أسباب يعقلها الخلق، وهذا صحيح فإنه أجرى الأمور على أسبابها ومسبباتها قدراً وشرعاً حكمة بالغة، ومنع بعض الأسباب من ترتب آثارها عليها، كما في معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، وكذلك يوجد كثيراً من الأشياء بغير الأسباب المعهودة، كما أوجد عيسى من أم بلا أب، ويحيى بين أبوين لا يولد لمثلهما وأشياء كثيرة من هذا النوع ليعرف العباد أنه المتصرف التصرف المطلق وأنه كما يتصرف في الأشياء بأسباب مربوطة معلومة، كذلك يتصرف فيها بغير المعهودة، ولذلك كان جمهور هذا النوع من المعجزات والكرامات وهي كلها براهين على وحدانية الله وإلهيته وربوبيته
فائدة
وقيل لبعضهم بم يعرف الله؟ قال: من نظر في مواد الرزق وتأمل حالة من لهم موجودات وعقارات وغلات كثيرة ولكنهم قد اتكلوا عليها فضاقت عليهم الأمور وركبتهم الديون وجاءت الأمور على خلاف ما يؤملون، ثم انظر إلى أناس كثير ليس لهم عقارات ولا غلات؛ وإنما عندهم أسباب بسيطة قد بارك الله لهم وبسط لهم الرزق، وذلك بأن قلوبهم على الدوام متطلعة إلى ما عند الله، راجية منه تسهيل الرزق، متوكلين عليه حق التوكل؛ وبذلك يعرف الله، وبذلك يعلم أن الأمر كله لله، كما ننظر إلى القوي من الناس الذي جمع بين القوة والذكاء، وبين السعي الحثيث ورزقه مقتر، ونرى الضعيف البليد الذي ليس عنده من الذكاء والقوة عشر معشار ما عند الأول، والله قد بسط له الرزق ويسر له أمره، وهذه أمور مشاهدة محسوسة تضطر العاقل إلى الاعتراف بوحدانية الله وقيامه على كل نفس بما كسبت.
فائدة
وقيل لآخر بأي شيء يعرف الله؟ فقال: بقوله تعالى: " وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا " سورة هود آية 6، فننظر مصداقها بين الخليقة وأن كل أحد قد يسر الله له من أسباب الرزق ما به يعتاش، هذا بتجارته، وهذا بصناعته، وهذا بحراثته، وهذا بخدمته، وهذا بمخلفات من قبله، وهذا بتنميته للمواشي، وهذا بإحسان غيره عليه، وهذا بكد غيره. إلى آخر الأسباب التي قدرها العزيز الحكيم ونوعها العليم الرحيم، فسبحان من وصل رزقه إلى الذرات في مهامه البراري وقعور المظلمات.
فائدة
إذا نظرت في خوارق العادات وفي معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء التي لا يحصي عددها العادون، علمت بذلك عظمة الباري، وأنه مقدر الأمور ومسبب الأسباب ورب كل شيء ومليكه، وكذلك إذا نظرت كثرة إجابته للدعاين، وكشفه الضر عن المضطرين، وإغاثته للملهوفين وهي وقائع كثيرة لا حصر لها، اضطرك الأمر إلى الاعتراف بالربوبية والوحدانية.