فوائد من كتاب التخويف من النار لابن رجب الحنبلى رحمه الله
حكمــــــة
قال ابن المبارك: أنبأني عمر بن عبد الرحمن بن مهدي سمعت وهب بن منبه يقول: قال حكيم من الحكماء إني لأستحي من الله عز و جل أن أعبده رجاء ثواب الجنة ـ أي فقط ـ فأكون كالأجير السوء إن أعطي عمل و إن لم يعط لم يعمل و إني لأستحي من الله أن أعبده مخافة النار أي فقط فأكون كعبد السوء إن رهب عمل و إن لم يرهب لم يعمل و إنه يستخرج حبه مني ما لا يستخرجه مني غيره خرجه أبو نعيم بهذا اللفظ و في تفسير لهذا الكلام من بعض رواته و هو أنه ذم العبادة على وجه الرجاء وحده أو على وجه الخوف وحده و هذا حسن.
حكمــــــة
كان بعض السلف يقول: من عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ و من عبده بالخوف وحده فهو حروري و من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق و من عبده بالخوف و الرجاء و المحبة فهو موحد مؤمن و سبب هذا أنه يجب على المؤمن أن يعبد الله بهذه الوجوه الثلاثة: المحبة و الخوف و الرجاء و لا بد له من جميعها و من أخل ببعضها فقد أخل ببعض واجبات الإيمان.
حكمــــــة
عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: قلت ليزيد بن مرثد: مالي أرى عينك لا تجف؟ قال: و ما مسألتك عنه؟ قلت: عسى الله أن ينفعني به قال: يا أخي إن الله توعدني إن أنا عصيته أن يسجنني في النار و الله لو لم يوعدني أن يسجنني إلا في الحمام لكنت حريا أن لا تجف لي عين قلت له: فهكذا أنت في صلاتك؟ قال: و ما مسألتك عنه؟ قلت: عسى الله أن ينفعني به قال: و الله إن ذلك ليعرض لي حين أسكن إلى أهلي فيحول بيني و بين ما أريد و إنه ليوضع الطعام بين يدي فيعرض لي فيحول بيني و بين أكله حتى تبكي امرأتي و تبكي صبياننا ما يدرون ما أبكانا و ربما أضجر ذلك امرأتي فتقول: يا ويحها و ما خصه من طول الحزن معك في الحياة الدنيا ما يقر لي معك عين.
حكمــــــة
عن الفرات بن سليمان قال: كان الحسن يقول: إن المؤمنين قوم ذلت و الله منهم الأسماع و الأبصار و الأبدان حتى حسبهم الجاهل مرضى و هم و الله أصحاب القلوب ألا تراه يقول: { و قالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن } والله لقد كابدوا في الدنيا حزنا شديدا و جرى عليهم ما جرى على من كان قبلهم الله ما أحزنهم ما أحزن الناس و لكن أبكاهم و أحزنهم الخوف من النار.
حكمــــــة
روى ابن أبي الدنيا من حديث عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال سمعت عبد الله بن حنظلة يوما و هو على فراشه و عدته من علته فتلا رجل عنده هذه الآية: { لهم من جهنم مهاد و من فوقهم غواش } فبكى حتى ظننت أنه نفسه ستخرج و قال: صاروا بين أطباق النار ثم قام على رجليه فقال قائل: يا أبا عبد الرحمن اقعد قال: منعني القعود ذكر جهنم و لا أدري لعلي أجدهم.
حكمــــــة
عن الفضيل قال: أشرفت ليلة على علي و هو في صحن الدار و هو يقول: النار و متى الخلاص من النار؟ و كان علي يوما عند ابن عيينه فحدث سفيان بحديث فيه ذكر النار و في يد علي قرطاس في شيء مربوط فشهق شهقة و وقع و رمى بالقرطاس أو وقع من يده فالتفت إليه سفيان فقال: لو علمت أنك ههنا ما حدثت به فما أفاق إلا بعد ما شاء الله.
حكمــــــة
عوتب يزيد الرقاشي على كثرة بكائه و قيل له: لو كانت النار خلقت لك ما زدت على هذا فقال: و هل خلقت النار إلا لي و لأصحابي و لإخواننا من الجن و الإنس؟ أما تقرأ: { سنفرغ لكم أيها الثقلان } أما تقرأ: { يرسل عليكما شواظ من نار و نحاس فلا تنتصران } فقرأ حتى بلغ: { يطوفون بينها و بين حميم آن } وجعل يجول في الدار و يصرخ و يبكي حتى غشي عليه
حكمــــــة
كان عامر بن عبد الله يقول: ما رأيت مثل الجنة نام طالبها و ما رأيت مثل النار نام هاربها فكان إذا جاء الليل قال: أذهب حر النار النوم فما ينام حتى يصبح و إذا جاء النهار قال: أذهب حر النار النوم فما ينام حتى يمسي. روي عنه أنه كان يتلوى الحب في المقلى ثم يقوم فينادي: اللهم إن النار قد منعتني من النوم فاغفر لي و روي عنه أنه قيل له: مالك لا تنام؟ قال: إن ذكر جهنم لا يدعني أنام.
حكمــــــة
مر منصور بن عمار بالكوفة ليلا وسمع صوتا يناجي ربه فتلا منصور هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة } قال منصور فسمعت دكدكة لم أسمع بعدها حسا و مضيت فلما كان من الغد رجعت فاذا جنازة قد أخرجت و إذا عجوز فسألتها عن أمر الميت ولم تكن عرفتني فقالت هذا رجل لا جازاه الله خيرا مر بابني البارحة و هو قائم يصلي فتلا آية من كتاب الله فتفطرت مرارته فوقع ميتا.
حكمــــــة
عن إبراهيم بن محمد البصري قال: نظر عمر بن عبد العزيز إلى رجل عنده متغير اللون فقال له: ما الذي أرى بك؟ قال: أسقام و أمراض يا أمير المؤمنين إن شاء الله فأعاد عليه عمر فأعاد عليه الرجل مثل ذلك ثلاث مرات فقال إذا أبيت إلا أن أخبرك فإني ذقت حلاوة الدنيا فصغر في عيني زهرتها و ملاعبها و استوى عندي حجارتها و ذهبها و رأيت كأن الناس يساقون إلى الجنة و أنا أساق إلى النار فأسهرت لذلك ليلى و اظمأت له نهاري و كل ذلك صغير حقير في جنب عفو الله و ثواب الله عز و جل و جنب عقابه.
حكمــــــة
قال عامر بن يساف عن يحيى بن أبي كثير قال: بلغنا أنه إذا كان يوم نوح داود عليه السلام يأتي الوحش من البراري و تأتي السباع من الغياض و تأتي الهوام من الجبال و تأتي الطيور من الأوكار و تجتمع الناس لذلك اليوم و يأتي داود عليه السلام حتى يرقى على المنبر فيأخذ في الثناء على ربه فيضجون بالبكاء و الصراخ ثم يأخذ في ذكر الجنة و النار فيموت طائفة من الناس و طائفة من السباع و طائفة من الهوام و طائفة من الوحوش و طائفة من الرهبان و العذارى المتعبدان ثم يأخذ في ذكر الموت و أهوال القيامة و يأخذ في النياحة على نفسه فيموت طائفة من هؤلاء و طائفة من هؤلاء و من كل صنف طائفة.
حكمــــــة
قال الفضيل بن العباس ـ و كان من الأبدال و كانت الدموع قد أثرت في وجهه و كان يصوم الدهر و يفطر كل ليلة على رغيف ـ قال: مر عيسى عليه السلام بجبل بين نهرين نهر عن يمينه و نهر عن يساره و لا يدري من أين يجيء هذا الماء و لا إلى أين يذهب قال: أما الذي يجري عن يساري فمن دموع عيني اليسرى قال: مم ذاك؟ قال: خوف من ربي أنه يجعلني من وقود النار قال عيسى: فأنا أدعو الله عز و جل أن يهبك لي فدعا الله فوهبه له فقال عيسى: قد وهبت لي قال: فجاء منه الماء حتى احتمل عيسى فذهب به قال له عيسى اسكن بعزة الله فقد استوهبتك من ربي فوهبك لي فما هذا؟ قال أما البكاء الأول فبكاء الخوف و أما البكاء الثاني فبكاء الشكر.
حكمــــــة
عن مجاهد: يؤمر بالعبد إلى النار يوم القيامة فتنزوي فيقول: ما شأنك؟ فتقول: إنه قد كان يستجير مني فيقول: خلوا سبيله. وقال سفيان عن مسعر بن عبد الأعلى: الجنة و النار ألقيتا السمع من ابن آدم فإذا قال الرجل: أعوذ بالله من النار قالت النار: اللهم أعذه و إذا قال: أسأل الله الجنة قالت الجنة: اللهم بلغه.
حكمــــــة
روى ورقاء عن أبي نجيح عن مجاهد { و في السماء رزقكم و ما توعدون } قال: الجنة في السماء و قال استدل بعضهم لهذا بأن الله تعالى أخبر أن الكفار يعرضون على النار غدوا و عشيا ـ يعني في مدة البرزخ ـ و أخبر أنه لا تفتح لهم أبواب السماء فدل أن النار في الأرض و قال تعالى: { كلا إن كتاب الفجار لفي سجين }
حكمــــــة
قال الله عز و جل: { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } قال الضحاك: الدرك إذا كان بعضها فوق بعض و الدرك إذا كان بعضها أسفل من بعض و قال غيره: الجنة درجات و النار دركات و قد تسمى النار درجات أيضا كما قال تعالى بعد أن ذكر أهل الجنة و أهل النار: { و لكل درجات مما عملوا } وقال: { أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير * هم درجات عند الله }.
حكمــــــة
كان ابن عباس يقول: إن الجحيم سقر و فيها شجرة الزقوم فزعم أعداء الله أنه إذا خلا العدد الذي وجدوا في كتابهم أياما معدودة و إنما يعني بذلك السير الذي ينتهي إلى أصل الجحيم فقالوا: إذا خلا العدد انقضى الأجل فلا عذاب و تذهب جهنم و تهلك فذلك قوله: { لن تمسنا النار إلا أياما معدودة } يعنون بذلك الأجل فقال ابن عباس: لما اقتحموا من باب جهنم ساروا في العذاب حتى انتهوا إلى شجرة الزقوم آخر يوم من الأيام المعدودة و هي أربعون سنة فلما أكلوا من شجرة الزقوم و ملؤوا البطون آخر يوم من الأيام المعدودة قال لهم خزنة سقر: زعمتم أنكم لن تمسكم النار إلا أياما معدودة و قد خلا العدد و أنتم في الأبد فأخذ بهم في الصعود في جهنم يرهقون ففي هذه الرواية عن ابن عباس أن قعر جهنم و مسافة عمقها أربعون عاما و أن ذلك هو معنى ما في التوراة و لكن اليهود حرفوه فجعلوا مسافة مابين طرفيها و زعموا أنه إذا انقضت هذه المدة أن جهنم تخرب و تهلك فإن ذلك من كذبهم على الله و تحريفهم التوراة.
حكمــــــة
عن ابن جريح في قوله { لها سبعة أبواب } قال: أولها جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم و فيها أبو جهل ثم الهاوية. قال جوبير عن الضحاك: سمى الله أبواب جهنم لكل باب منها جزء مقسوم: باب لليهود و باب للنصارى و باب للمجوس و باب للصابئين و باب للمنافقين و باب للذين أشركوا و هم كفار العرب وباب لأهل التوحيد و أهل التوحيد يرجى لهم و لا يرجى للآخرين.
حكمــــــة
عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: كان بالبادية رجل قد اتخذا مسجدا فجعل في قبلته سبعة أحجار فكان إذا قضى صلاته قال: يا أحجار أشهدكم أن لا إله إلا الله قال: فمرض الرجل فعرج بروحه قال: فرأيت في منامي أنه أمر بي إلى النار فرأيت حجرا من تلك الأحجار ـ أعرفه بعينه ـ قد عظم فسد عني بابا من أبواب جهنم قال: حتى سد عني بقية الأحجار أبواب جهنم السبعة.
حكمــــــة
عن الضحاك قال: حائط لا باب له و مراده ـ و الله أعلم ـ أن الأبواب أطبقت فصار الجدار كأنه لا باب له و قوله تعالى: { إنها عليهم مؤصدة * في عمد ممددة } معناه: أطبقت عليهم بعمد قال قتادة: و كذلك هو في قراءة عبد الله بعمد بالباء قال عطية: هي عمد من حديد في النار و قال مقاتل: أطبقت الأبواب عليهم ثم شدت بأوتاد من حديد حتى يرجع عليهم غمها و حرها و على هذا قوله: { ممددة } صفة للعمد يعني أن العمد التي أوثقت بها الأبواب ممدة مطولة و المدود الطويل أرسخ و أثبت من القصير.
حكمــــــة
عن زبيد عن إبراهيم قال: قال عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: { في عمد ممددة } قال: هي الأدهم و قد تقدم أن عبد الله كان يقرؤها بعمد و الأدهم: القيد و كذا قال ابن زيد في قوله: { في عمد ممددة } قال: في عمد من حديد مغلولين فيه و تلك العمد من نار قد احترقت من النار فهي ممددة لهم و قيل إن المراد بالعمد الممددة: الزمان الذي لا انقطاع له قاله أبو فاطمة.
حكمــــــة
قال السدي: من قرأها في عمد يعنى بالفتح فهي عمد من نار و من قرأها في عمد يعني بالضم فهو أجل ممدود وقال سعيد بن بشير عن قتادة: { مؤصدة } أي مطبقة أطبقها الله عليهم فلا ضوء فيها و لا فرج و لا خروج منها آخر الأبد و هذا الإطباق نوعان: أحدهما: خاص لمن يدخل في النار أو من يريد الله التضييق عليه أجارنا الله من ذلك قال أبو توبة اليزني: إن في النار أقواما مؤصدة عليهم كما يطبق الحق على طبقه. والثاني: الإطباق العام و هو إطباق النار على أهلها المخلدين فيها.