فوائد من اسرار الصلاة
حكمــــــة
سرُّ الصلاة و لُبها إقبال القلب فيها على الله، و حضوره بكلِّيته بين يديه، فإذا لم يقبل عليه و اشتغل بغيره و لهى بحديث نفسه، كان بمنزلة وافد وفد إلى باب الملك معتذرا من خطاياه و زله مستمطرا سحائب جوده و كرمه و رحمته، مستطعما له ما يقيت قلبه، ليقوى به على القيام في خدمته، فلما وصل إلى باب الملك، و لم يبق إلا مناجته له، التفت عن الملك وزاغ عنه يمينا و شمالا، أو ولاه ظهره
حكمــــــة
عبودية التكبير " الله أكبر ". و أُمر بأن يستقبل القبلة ـ بيته الحرام ـ بوجهه، و يستقبل الله عز و جل بقلبه، لينسلخ مما كان فيه من التولي و الإعراض، ثم قام بين يديه مقام المتذلل الخاضع المسكين المستعطف لسيِّده عليه، و ألقى بيديه مسلّماً مستسلماً ناكس الرأس، خاشع القلب مُطرق الطرف لا يلتفت قلبه عنه، و طرفة عين، لا يمنة و لا يسرة، خاشع قد توجه بقلبه كلِّه إليه.
حكمــــــة
الله أكبر في قلبه من كلِّ شيء، و صدَّق هذا التكبير بأنه لم يكن في قلبه شيء أكبر من الله تعالى يشغله عنه، فإنه إذا كان في قلبه شيء يشتغل به عن الله دلّ على أن ذلك الشيء أكبر عنده من الله فإنه إذا اشتغل عن الله بغيره، كان ما اشتغل به هو أهم عنده من الله، و كان قوله " الله أكبر " بلسانه دون قلبه
حكمــــــة
عبودية الاستفتاح فإذا قال: " سبحانك اللهم و بحمدك " و أثنى على الله تعالى بما هو أهله، فقد خرج بذلك عن الغفلة و أهلها، فإن الغفلة حجاب بينه و بين الله. و أتى بالتحية و الثناء الذي يُخاطب به الملك عند الدخول عليه تعظيما له و تمهيدا، و كان ذلك تمجيدا و مقدمة بين يدي حاجته. فكان في الثناء من آداب العبودية، و تعظيم المعبود ما يستجلب به إقباله عليه، و رضاه عنه، و إسعافه بفضله حوائجه
حكمــــــة
فأمر العبد بالاستعاذة بالله منه ليسلم له مقامه بين يدي ربه و ليحي قلبه، و يستنير بما يتدبره و يتفهمه من كلام الله سيِّده الذي هو سبب حياة قلبه، و نعيمه و فلاحه، فالشيطان أحرص شيء على اقتطاع قلبه عن مقصود التلاوة. و لما علم الله سبحانه و تعالى حَسَد العدو للعبد، و تفرّغه له، و علم عجز العبد عنه، أمره بأن يستعيذ به سبحانه، و يلتجئ إليه في صرفه عنه
حكمــــــة
فإذا أخذ العبد في قراءة القرآن، فقد قام في مقام مخاطبة ربِّه و مناجاته، فليحذر كل الحذر من التعرّض لمقته و سخطه، بأن يناجيه و يخاطبه، و قلبه معرِض عنه، ملتفت، إلى غيره، فإنه يستدعي بذلك مقته، و يكون بمنزلة رجل قرَّبه ملك من ملوك الدنيا، و أقامه بين يديه فجعل يخاطب الملك، و قد ولاَّه قفاه، أو التفت عنه بوجهه يَمنَة و يسرة، فهو لا يفهم ما يقول الملك، فما الظن بمقت الملك لهذا.
حكمــــــة
فينبغي بالمصلي أن يقف عند كل آية من الفاتحة وقفة يسيرة، ينتظر جواب ربِّه له، و كأنه يسمعه و هو يقول: " حمدني عبدي " إذا قال: { الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ}. فإذا قال: { الرَّحمن الرَّحيم } وقفَ لحظة ينتظر قوله: " أثنى عليَّ عبدي ". فإذا قال: {مالكِ يومِ الدِّينِ } انتظر قوله: " مجَّدني عبدي ". فإذا قال: { إيَّاك نَعبدُ و إيَّاك نَستعين } انتظر قوله تعالى: " هذا بيني و بين عبدي ". فإذا قال: {اهدِنا الصِّراط المُستقيم } إلى آخرها انتظر قوله: " هذا لعبدي و لعبدي ما قال
حكمــــــة
فعند قوله: { الحمد لله رب العالمين } تجد تحت هذه الكلمة إثبات كللّ كمال للرب و وصفا و اسما، و تنزيهه سُبحَانه و بحمده عن كلِّ سوء، فعلاً و وصفاً و اسماً، و إنما هو محمود في أفعاله و أوصافه و أسمائه، مُنزَّه عن العيوب و النقائص في أفعاله و أوصافه و أسمائه. فأفعاله كلّها حكمة و رحمة و مصلحة و عدل و لا تخرج عن ذلك، و أوصافه كلها أوصاف كمال، و نعوت جلال، و أسماؤه كلّها حُسنى.
حكمــــــة
من معاني الحمد و حمده تعالى قد ملأ الدنيا و الآخرة، و السموات و الأرض، و ما بينهما و ما فيهما، فالكون كلّه ناطق بحمده، و الخلق و الأمر كلّه صادر عن حمده، و قائم بحمده، و وجوده و عدمه بحمده، فحمدُه هو سبب وجود كل شيء موجود، و هو غاية كل موجود، و كلّ موجود شاهد بحمده، فإرساله رسله بحمده، و إنزاله كتبه بحمده، و الجنة عُمِّرت بأهلها بحمده، و النَّار عُمِّرت بأهلها بحمده، كما أنَّها إنَّما وجدتا بحمده.
حكمــــــة
و تمام عبودية الركوع أن يتصاغر الراكع، و يتضاءل لربه، بحيث يمحو تصاغره لربه من قلبه كلَّ تعظيم فيه لنفسه، و لخلقه و يثبت مكانه تعظيمه ربه وحده لا شريك له. فثناء العبد على ربه في هذا الركن ؛ هو أن يحني له صلبه، و يضع له قامته، و ينكس له رأسه، و يحني له ظهره، و يكبره مُعظماً له، ناطقاً بتسبيحه، المقترن بتعظيمه
حكمــــــة
كلما استولى على قلبه تعظيم الربِّ، و قوى خرج منه تعظيم الخلق، و ازداد تصاغره هو عند نفسه فالركوع للقلب بالذات، و القصد و الجوارح بالتبع و التكملة. ثم شرع له أن يحمد ربه، و يثني عليه بآلائه عند اعتداله و انتصابه و رجوعه إلى أحسن هيئاته، منتصب القامة معتدلها فيحمد ربه و يثني عليه بآلائه عند اعتداله و انتصابه و رجوعه إلى أحسن تقويم، بأن وفقه و هداه لهذا الخضوع الذي قد حرمه غيره.
حكمــــــة
لماذا يكرر السجود مرتان و شُرع له تكرير هذه الأفعال و الأقوال ؛ إذ هي غذاء القلب و الروح التي لا قوام لهما إلا بها، فكان تكريرها بمنزلة تكرير الأكل لقمة بعد لقمة حتى يشبع، و الشرب نفسا بعد نفس حتى يَروى، فلو تناول الجائع لقمة واحدة ثم دفع الطعام من بين يديه فماذا كانت يغني عنه تلك اللقمة؟ و ربما فتحت عليه باب الجوع أكثر مما به ؛ و لهذا قال بعض السلف: " مثل الذي يصلي و لا يطمئن في صلاته كمثل الجائع إذا قدم إليه طعام فتناول منه لقمة أو لقمتين ماذا تغني عنه ذلك ".
حكمــــــة
فتأمل أطيب الكلمات بعد القرآن، كيف لا تنبغي إلا لله؟ و هي: سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر و لا حول و لا قوة إلا بالله، فإن " سبحان الله " تتضمن تنزيهه عن كل نقص و عيب و سوء عن خصائص المخلوقين و شبههم. و " الحمد لله " تتضمن إثبات كلّ كمال له قولاً، و فعلاً، و وصفاً على أتمِّ الوجوه، و أكملها أزلاً و أبداً. و " لا إله إلا الله " تتضمن انفراده بالإلهية، و أن كل معبود سواه باطل، و أنه وحده الإله الحق، و أن من تأله غيره فهو بمنزلة من اتخذ بيتاً من بيوت العنكبوت، يأوي إليه، و يسكنه من الحرِّ و البرد، فهل يغني عنه ذلك شيئاً. و " الله أكبر " تتضمن أنه أكبر من كلِّ شيء، و أجل، و اعظم، و أعز و أقوى و أمنع، و أقدر، و اعلم، و أحكم، فهذه الكلمات لا تصح هي و معانيها إلا لله وحده.
حكمــــــة
سرُّ الصلاة و روحها و لبُّها، هو إقبال العبد على الله بكليّته فيها، فكما أنه لا ينبغي أن يصرف وجهه عن القبلة إلى غيرها فيها، فكذلك لا ينبغي له أن يصرف قلبه عن ربِّه إلى غيره فيها. بل يجعل الكعبة ـ التي هي بيت الله ـ قبلة وجهه و بدنه، و رب البيت تبارك و تعالى قبلة قلبه و روحه، و على حسب إقبال العبد على الله في صلاته، يكون إقبال الله عليه، و إذا أعرضَ أعرض الله عنه، كما تدين تُدان.
حكمــــــة
و الإقبال في الصلاة على ثلاثة منازل: *إقبال العبد على قلبه فيحفظه و يصلحه من أمراض الشهوات و الوساوس، و الخطرات المُبطلة لثواب صلاته أو المنقصة لها. * و الثاني: إقباله على الله بمراقبته فيها حتى يعبده كانه يراه. *و الثالث: إقباله على معاني كلام الله، و تفاصيله و عبودية الصلاة ليعطيها حقها من الخشوع و الطمأنينة و غير ذلك. فباستكمال هذه المراتب الثلاث يكون قد أقام الصلاة حقاً، و يكون إقبال الله على المصلي بحسب ذلك.
حكمــــــة
و لما كان ما بُلي به من النفس الأمارة، و الهوى المقتضي لمرادها و الطباع المطالبة، و الشيطان المغوي، يقتضون منه إضاعة حظه من ذلك، أو نقصانه، اقتضت رحمة ربه العزيز الرحيم أن شَرَعَ له الصلاة مُخلِفة عليه ما ضاع عليه من ذلك، رادَّة عليه ما ذهب منه، مجددة له ما ذهب من عزمه و ما فقده، و ما أخلِقَ من إيمانه
حكمــــــة
و القلوب ثلاثة: صحيح سليم فشرابه الشراب الطهور في الإناء النظيف، و سقيم مريض فشرابه الشراب النجس في الإناء القذر، و قلب فيه مادتان. إيمان و نفاق، فشرابه في إناء بحسب المادتين، و قد جعل الله لكل شيء قدراً، فالعارف مَن نظر في الأسباب إلى غاياتها و نتائجها، و تأمل مقاصدها، و ما تؤول إليه. و مَن عرف مقاصد الشرع في سدِّ الذرائع المفضية إلى الحرام، قطع بتحريم هذا السَّماع، فإنَّ المرأة الأجنبية و سماع صوتها حرام، و كذلك الخلوة بها
حكمــــــة
فإذا انتصب العبد قائماً بين يديه، فإقباله على قيُّومية الله و عظمته فلا يتفلت يمنة و لا يسرة. و إذا كبَّر الله تعالى كان إقباله على كبريائه و إجلاله و عظمته. و كان إقباله على الله في استفتاحه على تسبيحه و الثناء عليه و على سُبحات وجهه، و تنزيهه عمَّا لا يليق به، و يثني عليه بأوصافه و كماله. فإذا استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، كان إقباله على ركنه الشديد، و سلطانه و انتصاره لعبده، و منعه له منه و حفظه من عدوه. و إذا تلى كلامه كان إقباله على معرفته في كلامه كأنه يراه و يشاهده في كلامه كما قال بعض السلف: لقد تجلّي الله لعباده في كلامه.
حكمــــــة
لكل شيء ثمرة و ثمرة الصلاة الإقبال على الله و كما أن الصوم ثمرته تطهير النفس، و ثمرة الزكاة تطهير المال، و ثمرة الحج وجوب المغفرة، و ثمرة الجهاد تسليم النفس إليه، التي اشتراها سبحانه من العباد، و جعل الجنة ثمنها ؛ فالصلاة ثمرتها الإقبال على الله، و إقبال الله سبحانه على العبد، و في الإقبال على الله في الصلاة جميع ما ذكر من ثمرات الأعمال و جميع ثمرات الأعمال في الإقبال على الله فيها.
حكمــــــة
و تأمل قوله: " و جعلت قرة عيني في الصلاة " و لم يقل: " بالصلاة "، إعلاماً منه بأن عينه لا تقر إلا بدخوله كما تقر عين المحب بملابسته لمحبوبه و تقر عين الخائف بدخول في محل أنسه و أمنه، فقرة العين بالدخول في الشيء أم و أكمل مِت قرة العين به قبل الدخول فيه، و لما جاء إلى راحة القلب من تعبه و نصبه قال: " يا بلال أرحنا بالصلاة ".
حكمــــــة
لماذا الراحة بالصلاة؟ أي أقمها لنستريح بها من مقاساة الشواغل كما يستريح التعبان إذا وصل إلى مأمنه و منزله و قرَّ فيه، و سكن و فارق ما كان فيه من التعب و النصب. و تامل كيف قال: " أرحنا بالصّلاة " و لم يقل: " أرحنا منها "، كما يقوله المتكلف الكاره لها، الذي لا يصليها إلا على إغماض و تكلف، فهو في عذاب ما دام فيها، فإذا خرج منها وجد راحة قلبه و نفسه ؛ و ذلك أنَّ قلبه ممتلئ بغيره، و الصلاة قاطعة له عن أشغاله و محبوباته الدنيوية، فهو معذَّب بها حتى يخرج منها، و ذلك ظاهر في أحواله فيها، من نقرها، و التفات قلبه إلى غير ربه، و ترك الطمأنينة و الخشوع فيها، و لكن قد عَلِمَ أنَّه لا بدّ له من أدائها، فهو يؤديها على أنقص الوجوه، قائل بلسانه ما ليس في قلبه و يقول بلسان قلبه حتى نصلي فنستريح من الصلاة، لا بها.