تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - 1
أقسام الخير
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - لابن مسكويه
الناس مختلفون في السعادة الإنسانية ذلك أن الفقير يرى أن السعادة العظمى في الثروة واليسار. والمريض يرى أنها في الصحة والسلامة. والذليل يرى أنها في الجاه والسلطان. والخليع يرى أنها في التمكن من الشهوات كلها على اختلافها والعاشق يرى أنها في الظفر بالمعشوق. والفاضل يرى أنها في إفاضة المعروف على المستحقين. والفيلسوف يرى أن هذه كلها إذا كانت مرتبة بحسب تقسيط العدل أعني عند الحاجة وفي الوقت الذي يجب وكما يجب وعند من يجب. فهي سعادات كلها.
أقسام الخير
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - لابن مسكويه
السعادة خمسة أقسام: أحدها في صحة البدن ولطف الحواس ويكون ذلك من اعتدال المزاج والثاني في الثروة والأعوان وأشباهما حتى يتسع لأن يضع المال في موضعه ويعمل به سائر الخيرات والثالث أن تحسن أحدوثته في الناس وينشر ذكره بين أهل الفضل فيكون ممدوحا بينهم والرابع أن يكون منجحا في الأمور والخامس أن يكون جيد الرأى صحيح الفكر سليم الإعتقادات في دينه وغير دينه بريئا من الخطأ والزلل.
أقسام الخير
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - لابن مسكويه
الخيرات منها ما هي شريفة ومنها ماهي ممدوحة ومنها ما هي بالقوى كذلك وما هي نافعة فيها. فالشريفة منها هي التي شرفها من ذاتها وتجعل من اقتناها شريفا وهي الحكمة والعقل والممدوحة منها مثل الفضائل والأفعال الجميلة الإرداية والتي هي بالقوى مثل التهيء والإستعداد لنيل الأشياء التي تقدمت والنافعة هي جميع الأشياء التي تطلب لا لذاتها بل ليتوصل بها إلى الخيرات.
الواجب على الحاكم
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - لابن مسكويه
قد يظن بالسعادة أنها تكون لغير الناطقين. فإن كان ذلك فإنما هي استعدادات فيها لقبول تماماتها وكمالاتها من غير قصد ولا رويى ولا إرادة وتلك الإستعدادات هي الشوق أو ما يجري مجرى الشوق من الناطقين بالإرادة. فأما ما يتأتى للحيوانات في مآكلها ومشاربها وراحاتها فينبغي أن تسمى بختا أواتفاقا ولا يؤهل لإسم السعادة كما يسمى في الإنسان أيضا.
الواجب على الحاكم
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - لابن مسكويه
السعادة فهي الخير بالإضافة إلى صاحبها وهي كمال له. فالسعادة إذا خير ما وقد تكون سعادة الإنسان غير سعادة الفرس وسعادة كل شيء في تمامه وكماله الذي يخصه. فأما الخير الذي يقصده الكل بالشوق فهو طبيعة تقصد ولها ذات وهو الخير العام للناس من حيث هم ناس فهم بأجمعهم مشتركون فيها.
الشوق إلى المعارف والعلوم
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - لابن مسكويه
ينبغي أن يعلم أن كل إنسان معد نحو فضيلة ما فهو إليها أقرب وبالوصول إليها أحرى. ولذلك لا تصير سعادة الواحد من الناس غير سعادة الآخر إلا من اتفق له نفس صافية وطبيعة فائقة فينتهي إلى غايات الأمور وعلى غاياتها أعني السعادة القصوى التي لا سعادة بعدها.
الشوق إلى المعارف والعلوم
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - لابن مسكويه
الشوق إلى المعارف والعلوم ربما ساق الإنسان على منهج قويم وقصد صحيح حتى ينتهي إلى غاية كماله وهي سعادته التامة. وقلما يتفق ذلك وربما اعوج به عن السمت والسنن وذلك لأسباب كثيرة يطول ذكرها ولا حاجة بك إلى علمها الآن وأنت في تهذيب خلقك.
مراتب الحيوان
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - لابن مسكويه
أول المراتب من الأفق الإنساني المتصل بآخر ذلك الأفق الحيواني مراتب الناس الذين يسكنون في أقاصي المعمورة من الشمال والجنوب كأواخر الترك من بلاد يأجوج ومأجوج وأواخر الزنج وأشباههم من الأمم التي لا تميز عن القرود إلا بمرتبة يسيره. ثم تتزايد فيهم قوة التمييز والفهم إلى أن يصيروا إلى وسط الأقاليم فيحدث فيهم الذكاء وسرعة الفهم والقبول للفضائل وإلى هذا الموضع ينتهي فعل الطبيعة التي وكلها الله عز وجل بالمحسوسات.
مراتب الحيوان
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - لابن مسكويه
تتزايد فضيلة قبول الـتأديب في الحيوانات حتى يشرف بها ضروب الشرف كالفرس والبازي المعلم. ثم يصير من هذه المرتبة إلى مرتبة الحيوان الذي يحاكي الإنسان من تلقاء نفسه ويتشبه به من غير تعليم كالقردة وما أشبهها ويبلغ من ذكائها ن تستكفي في التأدب بأن ترى الإنسان يعمل عملا فتعمل مثله من غير أن تحوج الإنسان إلى تعب بها ورياضة لها وهذه غاية أفق الحيوان التي أن تجاوزها وقبل زيادة يسيرة خرج بها عن أفقه وصار في أفق الإنسان الذي يقبل العقل والتمييز والنطق.
مراتب الحيوان
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - لابن مسكويه
أن ما أهدى منها إلى الإزدواج وطلب النسل وحفظ الولد وتربيته والإشفاق عليه بالكن والعش واللباس كما نشاهد فيما يلد ويبيض وتغذيته إما باللبن وإما بنقل الغذاء إليه فإنه أفضل مما لا يهتدي إلى شيء منها. ثم لا تزال هذه الأحوال تتزايد في الحيوان حتى يقرب من أفق الإنسان فحينئذ يقبل التأديب ويصير بقبوله للأدب ذا فضيلة يتميز بها من سائر الحيوانات.
الأجسام الطبيعية
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - لابن مسكويه
الحالة الزائدة في النبات التي شرف بها على الجماد تتفاضل: وذلك أن بعضه يفارق الجماد مفارقة يسيرة كالمرجان وأشباهه. ثم يتدرج فيها فيحصل له من هذه الزيادة شيء بعد شيء فبعضه ينبت من غير زرع ولا بذر ولا يحفظ نوعه بالثمر والبذر. ويكفيه في حدوثه امتزاج العناصر وهبوب الرياح وطلوع الشمس فلذلك هو في أفق الجمادات وقريب الحال منها. ثم تزداد هذه الفضيلة في النبات فيفضل بعضه على بعض بنظام وترتيب حتى تظهر فيه قوة الأثمار وحفظ النوع بالبذر الذي يخلف به مثله فتصير هذه الحالة زائدة فيه ومميزة له عن حال ما قبله. ثم تقوى هذه الفضيلة فيه حتى يصير بعضه على بعض حتى يبلغ إلى أفقه ويصير في أفق الحيوان.
آداب متنوعة
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - ابن مسكويه
يعود طاعة والديه ومعلميه ومؤديه وإن ينظر اليهم بعين الجلالة والتعظيم. وهذه الآداب النافعة للصبيان هي للكبار من الناس أيضا نافعة ولكنها للأحداث أنفع لأنها تعودهم محبة الفضائل وينشأون عليها فلا يثقل عليهم تجنب الرذائل ويسهل عليهم بعد ذلك جميع ما ترسمه الحكمة وتحده الشريعة والسنة.
آداب متنوعة
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - ابن مسكويه
لا يعير أحدا إلا بالقبيح والسيء من الأدب. ويعود أن لا يوحش الصبيان. بل يبرهم ويكافئهم على الجميل بأكثر منه لئلا يتعود الريح على الصبيان وعلى الصديق. ويبغض إليه الفضة والذهب ويحذر منهما أكثر من تحذير السباع والحيات والعقارب والأفاعي. فإن حب الفضة والذهب آفته أكثر من آفات السموم.
آداب متنوعة
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - ابن مسكويه
يعود المشي والحركة والركوب والرياضة حتى لا يتعود أضدادها، يعود أن لا يكشف أطرافه ولا يسرع في المشي ولا يرخي يديه بل يضمهما إلى صدره ولا يربي شعره. ولا يزين بملابس النساء ولا يلبس خاتما إلا وقت حاجته إليه. ولا يفتخر على أقرانه بشيء مما يملكه والداه من مآكله وملابسه وما يجري مجراه ولا يشين بل يتواضع لكل أحد ويكرم كل من عاشره.
آداب متنوعة
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - ابن مسكويه
يمنع من النوم الكثير فإنه يقبحه ويغلظ ذهنه ويميت خاطره. هذا بالليل فأما بالنهار فلا ينبغي أن يتعوده البتة. ويمنع أيضا من الفراش الوطيء ومن أنواع الترفه حتى يصلب بدنه ويتعود الخشونة ولا يتعود الخيش والأسراب في الصيف ولا الأوبار والنيران في الشتاء.
آداب المطاعم
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - ابن مسكويه
ينبغي أن يبدأ به في تقويمها آداب المطاعم فيفهم أولا انها إنما تراد للصحة لا للذة وأن الأغذية كلها إنما خلقت وأعدت لنا لتصح بها أبداننا وتصير مادة حياتنا. فهي تجري مجرى الأدوية ليتداوي بها الجوع والألم الحادث منه. فكما أن الدواء لا يرام للذة ولا يستكثر منه للشهوة فكذلك الأطعمة لا ينبغي أن يتناول منها إلا ما يحفظ صحة البدن ويدفع ألم الجوع ويمنع من المرض.
الملابس
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - ابن مسكويه
يحذر النظر في الأشعار السخيفة وما فيها من ذكر العشق وأهله وما يوهمه أصحابها، إنه ضرب من الظرف ورقة الطبع. فإن هذا الباب مفسدة للأحداث جدا. ثم يمدح بكل ما يظهر منه من خلق جميل وفعل حسن ويكرم عليه. فإن خالف في بعض الأوقات ما ذكرته فالأولى أن لا يوبخ عليه ولا يكاشف بأنه أقدم عليه بل يتغافل عنه تغافل من لا يخطر بباله أنه قد تجاسر على مثله ولا هم به لا سيما أن ستره الصبي واجتهد في أن يخفى ما فعله عن الناس فإن عاد فليوبخ عليه سرا وليعظم عنده ما أتاه.
الملابس
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - ابن مسكويه
الصبي في ابتداء نشوه يكون على الأكثر قبيح الأفعال إما كلها وإما اكثرها فإنه يكون كذوبا ويخبر ويحكي ما لم يسمعه ولم يره ويكون حسودا سروقا نماما لجوجا ذا فضول أضر شيء بنفسه وبكل أمر يلابسه. ثم لا يزال به التأديب والسنن والتجار حتى ينتقل في أحوال بعد أحوال.
الملابس
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - ابن مسكويه
أولى الناس بالملابس الملونة والمنقوشة النساء اللاتي يتزين للرجال ثم العبيد والخول. وأن الأحسن بأهل النبل والشرف من اللباس البياض وما أشبهه حتى يتربى على ذلك ويسمعه كل من يقرب منه ويتكرر عليه ولم يترك مخالطة من يسمع منه ضد ما ذكرته لا سيما من أترابه ومن كان في مثل سنه ممن يعاشره ويلاعبه.
فصل في تأديب الأحداث والصبيان خاصة
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - ابن مسكويه
أول ما ينبغي أن يتفرس في الصبي ويستدل به على عقله. الحياء فإنه يدل على أنه قد أحس بالقبيح ومع إحساسه به يحذره ويتجنبه ويخاف أن يظهر منه أو فيه. فإذا نظرت إلى الصبي فوجدته مستحيينا مطرقا بطرفه إلى الأرض غير وقاح الوجه ولا محدق اليك فهو أول دليل نجابته والشاهد لك على أن نفسه قد أحست بالجميل والقبيح.
فصل في تأديب الأحداث والصبيان خاصة
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - ابن مسكويه
أول قوة تظهر في الإنسان وأول ما يتكون هي القوة التي يشتاق بها إلى الغذاء الذي هو سبب كونه حيا فيتحرك بالطبع إلى اللبن يلتمسه من الثدي الذي هو معدنه من غير تعليم ولا توقيف أو يحدث له مع ذلك قوة على التماسه بالصوت الذي هو مادته ودليله الذي يدل به على اللذة والأذى.
سياسة النفس العاقلة
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - ابن مسكويه
قال الحكيم الأول: إني أرى أكثر الناس يدعون محبة الفعال الجميلة ثم لا يحتملون المؤنة فيها على علمهم بفضلها فيغلبهم الترفه ومحبة البطالة. فلا يكون بينهم وبين من لا يحب الأفعال الجميلة فرق إذا لم يحتملوا مؤنة الصبر ويصبروا إلى تعلم تمام ما آثروه وعرفوا فضله. واذكر مثل البئر التي تردى فيها الأعمى والبصير فيكونان في الهلكة سواء إلا أن الأعمى أعذر.
الواجب على العاقل
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - ابن مسكويه
من لم يتفق له في الصبا مبدأ نشوه ثم ابتلى بأن يربيه والده على رواية الشعر الفاحش وقبول أكاذيبه واستحسانا ما يوجد فيه من ذكر القبائح ونيل اللذات كما يوجد في شعر امرىء القيس والنابغة وأشباههما ثم صار بعد ذلك إلى رؤساء يقرونه على روايتها وقول مثلها ويجزلون له العطية.
وامتحن بأقران يساعدونه على تناول اللذات الجسمانية. ومال طبعه إلى الإستكثار من المطاعم والملابس والمراكب والزينة وإرتباط الخيل الفره والعبيد الروقة ثم انهمك فيها واشتغل بها عن السعادة التي أهل لها - فليعد جميع ذلك شقاء لا نعيما وخسرانا لا ربحا وليجتهد على التدريج إلى فطام نفسه منها.
الواجب على العاقل
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - ابن مسكويه
من اتفق له في الصبا أن يربي على أدب الشريعة ويؤخذ بوظائفها وشرائطها حتى يتعودها ثم ينظر بعد ذلك في كتب الأخلاق حتى تتأكد تلك الآداب والمحاسن في نفسه بالبراهين. ثم ينظر في الحساب والهندسة حتى يتعود صدق القول وصحة البرهان فلا يسكن إلا إليها ثم يتدرج حتى يبلغ إلى أقصى مرتبة الإنسان فهو السعيد الكامل فليكثر حمد الله تعالى على الموهبة العظيمة والمنة الجسيمة.
الواجب على العاقل
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - ابن مسكويه
يجب على العاقل أن يعرف ما ابتلى به الإنسان من هذه النقائص التي في جسمه وحاجاته الضرورية إلى إزالتها وتكميلها، أما بالغذاء الذي يحفظ به إعتدال مزاجه وقوام حياته فينال منه قدر الضرورة في كماله. ولا يطلب اللذة لعينها بل قوام الحياة التي تتبعه اللذة. فإن تجاوز ذلك قليلا فبقدر ما يحفظ رتبته في مروءته. ولا ينسب إلى الدناءة والبخل بحسب حاله ومرتبته بين الناس، وأما باللباس فالذي يدفع به أذى الحر والبرد ويستر العورة، وأما بالجماع فالذي يحفظ نوعه وتبقى به صورته، أعني طلب النسل فإن تجاوز ذلك فبقدر مالا يخرج به عن السنة ولا يتعدى ما يملكه إلى ما يملك غيره ثم يلتمس الفضيلة في نفسه العاقلة التي بها صار إنسانا وينظر إلى النقائص التي في هذه النفس خاصة فيروم تكميلها بطاقته وجهده. فإن هذه الخيرات هي التي لا تستر وإذا وصل إليها لا يمنع عنها الحياء ولا يتوارى عنها بالحيطان والظلمات ويتظاهر بها أبدا بين الناس وفي المحافل. وهي التي يكون بها بعض الناس أفضل من بعض وبعضهم أكثر إنسانية من بعض ويغذوا هذه النفس بغذائها الموافق لها المتم لنقصانها كما يغذو تلك بأغذيتها الملائمة لها.
كمال الإنسان في الذات المعنوية
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - ابن مسكويه
الناس مائلون بالطبع الجسداني إلى الشهوات فيكثر اتباعهم وتقل الفضلاء فيهم. وإذا تنبه الواحد بعد الواحد منهم إلى أن هذه اللذات إنما هي لضرورة الجسد وإن بدنه مركب من الطبائع المتضادة أعني الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة وأنه إنما يعالج بالمأكل والمشرب أمراضا تحدث به عند الإنحلال لحفظ تركيبه على حالة واحدة أبدا ما أمكن ذلك فيه. وأن علاج المرض ليس بسعادة تامة والراحة من الألم ليست بغاية مطلوبة ولا خير محض. وأن السعيد التام هومن لا يعرض له مرض البتة. وعرف مع ذلك أيضا أن الملائكة الأبرار الذين اصطفاهم الله بقربه لا تلحقهم هذه الآلام فلا يحتاجون إلى مداواتها بالأكل والشرب.
كمال الإنسان في الذات المعنوية
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - ابن مسكويه
الناس مائلون بالطبع الجسداني إلى الشهوات فيكثر اتباعهم وتقل الفضلاء فيهم. وإذا تنبه الواحد بعد الواحد منهم إلى أن هذه اللذات إنما هي لضرورة الجسد وإن بدنه مركب من الطبائع المتضادة أعني الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة وأنه إنما يعالج بالمأكل والمشرب أمراضا تحدث به عند الإنحلال لحفظ تركيبه على حالة واحدة أبدا ما أمكن ذلك فيه. وأن علاج المرض ليس بسعادة تامة والراحة من الألم ليست بغاية مطلوبة ولا خير محض. وأن السعيد التام هومن لا يعرض له مرض البتة. وعرف مع ذلك أيضا أن الملائكة الأبرار الذين اصطفاهم الله بقربه لا تلحقهم هذه الآلام فلا يحتاجون إلى مداواتها بالأكل والشرب.
كمال الإنسان في الذات المعنوية
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - ابن مسكويه
تعجب جالينوس في كتابه الذي سماه بأخلاق النفس من هذا الرأي وكثر استجهاله للقوم الذين هذه مرتبتهم من العقل. إلا أنه قال أن هؤلاء الخبثاء الذين سيرتهم أسوأ السير واردؤها إذا وجدوا إنسانا هذا رأيه ومذهبه نصروه ونوهوا به ودعوا إليه ليوهموا بذلك أنهم غير منفردين بهذه الطريقة لأنهم يظنون أنهم متى وصف أهل الفضل والنبل من الناس بمثل ما هم عليه كان ذلك عذرا لهم وتمويها على قوم آخرين في مثل طريقتهم. وهؤلاء هم الذين يفسدون الأحداث بإيهامهم أن الفضيلة هي ما تدعوهم إليه طبيعة البدن من الملاذ.
كمال الإنسان في الذات المعنوية
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - ابن مسكويه
من رضي لنفسه بتحصيل اللذات البدنية وجعلها غايته وأقصى سعادته فقد رضى بأخس العبودية لأخص الموالي. لأنه يصير نفسه الكريمة التي يناسب بها الملائكة عبدا للنفس الدنيئة التي يناسب بها الخنازير والخنافس والديدان وخسائس الحيوانات التي تشاركه في هذا الحال.
كمال الإنسان في الذات المعنوية
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - ابن مسكويه
ظن قوم أن كمال الإنسان وغايته هما في اللذات وإنها هي الخير المطلوب والسعادة القصوى. وظنوا أن جميع قواه اخر " إنما ركبت فيه من أجل هذه اللذات والتوصل إليها. وأن النفس الشريفة التي سميناها ناطقة إنما وهبت له ليرتب بها الأفعال ويميزها ثم يوجهها نحو هذه اللذات لتكون الغاية الأخيرة هي حصولها له على النهاية والغاية الجسمانية. وظنوا أيضا أن قوى النفس الناطقة أعني الذكر والحفظ والروية كلها تراد لتلك الغاية.
الشريعة
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - ابن مسكويه
الشريعة هي التي تقوم الأحداث وتعودهم الأفعال المرضية وتعد نفوسهم لقبول الحكمة وطلب الفضائل والبلوغ إلى السعادة الإنسية بالفكر الصحيح والقياس المستقيم وعلى الوالدين أخذهم بها وسائر الآداب الجميلة بضروب السياسات من الضروب إذا دعت إليه الحاجة أو التوبيخات أن صدتهم أو الأطماع في الكرامات أو غيرها مما يميلون إليه من الراحات أو يحذرونه من العقوبات.
الخلق
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - ابن مسكويه
مراتب الناس في قبول الآداب والمسارعة إلى تعلمها والحرص عليها فإنها كثيرة وهي تشاهد وتعاين فيهم وخاصة في الأطفال فإن أخلاقهم تظهر فيهم منذ بدء نشأتهم ولا يسترونها بروية ولا فكر كما يفعله الرجل التام الذي انتهى في نشؤه وكماله إلى حيث يعرف من نفسه ما يستقبح منه فيخفيه بضروب من الحيل والأفعال المضادة لما في طبعه.
الخلق
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - ابن مسكويه
اختلف القدماء في الخلق فقال بعضهم الخلق خاص بالنفس غير الناطقة وقال بعضهم قد يكون للنفس الناطقة فيه حظ. ثم اختلف الناس أيضا اختلافا ثانيا فقال بعضهم من كان له خلق طبيعي لم ينتقل عنه وقال آخرون ليس شيء من الأخلاق طبيعيا للإنسان ولا نقول أنه غير طبيعي. وذلك أنا مطبوعون على قبول الخلق بل ننتقل بالتأديب والمواعظ إما سريعا أو بطيئا.
الخلق
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - ابن مسكويه
الخلق حال للنفس داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا روية. وهذه الحال تنقسم إلى قسمين: منها ما يكون طبيعيا من أصل المزاج كالإنسان الذي يحركه أدنى شيء نحو غضب ويهيج من أقل سبب وكالإنسان الذي يجبن من أيسر شيء كالذي يفزع من أدنى صوت يطرق سمعه أو يرتاع من خبر يسمعه وكالذي يضحك ضحكا مفرطا من أدنى شيء يعجبه وكالذي يغتم ويحزن من أيسر شيء يناله، ومنها ما يكون مستفادا بالعادة والتدرب وربما كان مبدؤه بالروية والفكر ثم يستمر عليه أولا فأولا حتى يصير ملكة وخلقا.
الفضائل التي تحت العدالة
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - ابن مسكويه
من لم يخالط الناس ولم يساكنهم في المدن لا تظهر فيه العفة ولا النجدة ولا السخاء ولا العدالة بل تصير قواه وملكاته التي ركبت فيه باطلة لأنها لا تتوجه لا إلى خير ولا إلى شر فإذا بطلت ولم نظهر أفعالها الخاصة بها صاروا بمنزلة الجمادات والموتى من الناس ولذلك يظنون ويظن بهم أنهم أعفاء وليسوا بإعفاء وأنهم عدول وليسوا بعدول وكذلك في سائر الفضائل اعني أنه إذا لم يظهر منهم أضداد هذه التي هي شرور. ظن بهم الناس أنهم أفاضل وليست الفضائل إعداما بل هي أفعال وأعمال تظهر عند مشاركة الناس ومساكنتهم وفي المعاملات وضروب الإجتماعات.
الفضائل التي تحت العدالة
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - ابن مسكويه
قال الحكماء أن الإنسان مدني بالطبع أي هو محتاج إلى مدينة فيها خلق كثير لتتم له السعادة الإنسانية فكل بالطبع وبالضرورة يحتاج إلى غيره فهو لذلك مضطر إلى مصافاة الناس ومعاشرتهم العشرة الجميلة ومحبتهم المحبة الصادقة لأنهم يكملون ذاته ويتممون إنسانيته وهو أيا يفعل بهم مثل ذلك.
الفضائل التي تحت العدالة
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - ابن مسكويه
العدالة فهي وسط بين الظلم والإنظلام، أما الظلم فهو التوصل إلى كثرة المقتنيات من حيث لا ينبغي كما لا ينبغي. وأما الإنظلام فهو الإستحذاء والإستماتة في المقتنيات لمن لا ينبغي وكما لا ينبغي. ولذلك يكون للجائر أموال كثيرة لأنه يتوصل إليها من حيث لا يجب ووجوه التوصل إليها كثيرة. وأما المنظلم فمقتنياته وأمواله يسيرة جدا لأنه يتركها من حيث لا يجب. وأما العادل فهو في الوسط لأنه يقتني الأموال من حيث يجب. ويتركها من حيث لا يجب. فالعدالة فضيلة ينصف بها الإنسان من نفسه ومن غيره من غير أن يعطي نفسه من النافع أكثر وغيره أقل. وأما في الضار فبالعكس وهو أن لا يعطي نفسه أقل وغيره أكثر لكن يستعمل المساواة التي هي تناسب ما بين الأشياء ومن هذا المعنى اشتق اسمه أعني العدل.
الفضائل التي تحت العدالة
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - ابن مسكويه
العفة فهي وسط بين رذيلتين وهما الشره وخمود الشهوة. وأعني بالشره الإنهماك في اللذات والخروج فيها عما ينبغي وأعني بخمود الشهوة السكون عن الحركة التي تسلك نحو اللذة الجميلة التي يحتاج إليها البدن في ضروراته وهي ما رخص فيه صاحب الشريعة والعقل.
شوق النفس إلى أفعالها الخاصة بها
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - ابن مسكويه
الإنسان إذا اكتفى من طعامه وشرابه وسائر لذاته البدنية إذا عرض عليه الإستزادة منها كما يستزاد من الفضائل أبى ذلك وعافه وتبين له قبح صورة من يتعاطاها لا سيما مع الإستغناء عنها والإكتفاء منها بل يتجاوز ذلك إلى مقته وذمه بل إلى تقويمه وتأديبه.
شوق النفس إلى أفعالها الخاصة بها
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - ابن مسكويه
قد يظهر للإنسان أن هذه الأشياء التي يشتاقها البدن بالحواس ويميل إليها الجمهور أعني المآكل والمشارب والمناكح هي رذائل وليست فضائل وأنه إذا عقلها في الحيوانات الآخر وجد كثيرا منها أقدر على الإستكثار منها وأحرص عليها كالخنزير والكلب وأصناف كثيرة من حيوان الماء وسباع الوحش والطير فإنها أقوى وأحرص من الإنسان على هذه الأشياء وأكثر احتمالا لها وليست تكون بها أفضل من الإنسان.
شوق النفس إلى أفعالها الخاصة بها
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - ابن مسكويه
اى العلوم والمعارف مع هربها من أفعال الجسم الخاصة به فهو فضيلتها وبحسب طلب الإنسان لهذه الفضيلة وحرصه عليها يكون فضله وهذا الفضل يتزايد بحسب عناية الإنسان بنفسه وانصرافه عن الأمور العائقة له عن هذا المعنى بجهده وطاقته وقد وضح مما تقدم ما الأشياء العائقة لنا عن الفضائل أعني الأشياء البدنية والحواس وما يتصل بها. فأما الفضائل أنفسها فليست تحصل لنا إلا بعد أن تطهر نفوسنا من الرذائل التي هي أضدادها أعني شهواتها الرديئة الجسمانية ونزواتها الفاحشة البهيمية.