فوائد من كتاب تلذذ القلوب بمحبة علام الغيوب لعبد الرحمن بن فهد آل زايد
إن القلوب مفطورة مجبولة على محبة من أنعم عليها وأحسن إليها، فكيف بمن كل الإحسان منه وما بخلقه جميعًا من نعمة فمنه وحده لا شريك له كما قال تعالى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾ [النحل: 53]، وما تعرف به إلى عباده من أسمائه الحسنى وصفاته العلا وما دلت عليه آثار مصنوعاته من كماله ونهاية جلاله وعظمته.وقال الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ [البقرة: 165].
قال النبى صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» [رواه البخاري ومسلم]. قال الحافظ: (قوله: «لا يؤمن» أي إيمانًا كاملاً وقال القاضي عياض وابن بطال وغيرهما: المحبة ثلاثة أقسام محبة إجلال وإعظام كمحبة الوالد، ومحبة شفقة ورحمة كمحبة الولد، ومحبة مشاكلة وإحسان كمحبة سائر الناس فجمع صلى الله عليه وسلم أصناف المحبة في محبته) وقال ابن بطال: (ومعنى الحديث أن من استكمل الإيمان علم أن حق النبي صلى الله عليه وسلم آكد عليه من حق أبيه وابنه والناس أجمعين؛ لأن به صلى الله عليه وسلم استُنقِذنا من النار وهُدينا من الضلال).
قال القاضي عياض رحمه الله: (ومن محبته صلى الله عليه وسلم نصرة سنته، والذب عن شريعته وتمنى حضور حياته فيبذل نفسه وماله دونه قال: وإذا تبين ما ذكرناه تبين أن حقيقة الإيمان لا يتم إلا بذلك ولا يصح الإيمان إلا بتحقيق إعلاء قدر النبي صلى اللله عليه وسلم ومنزلته على كل والد وولد ومحسن ومفضل، ومن لم يعتقد هذا واعتقد سواه فليس بمؤمن).
إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أولى بنا من أنفسنا في المحبة ولوازمها أفليس الرب جل جلاله أولى بمحبته وعبادته من أنفسنا، وكل ما منه إلى عبده يدعوه إلى محبته مما يحب العبد ويكره، فعطاؤه ومنعه، ومعافاته وابتلاؤه، وقبضه وبسطه، وعدله وفضله، وإماتته وإحياؤه، وبره ورحمته، وإحسانه وستره، وعفوه وحلمه، وصبره على عبده وإجابته لدعائه وكشف كربه وإغاثة لهفته وتفريج كربته من غير حاجة منه إليه بل مع غناه التام عنه من جميع الوجوه، كل ذلك داع للقلوب إلى تأليهه ومحبته، فلو أن مخلوقًا فعل بمخلوق أدنى شيء من ذلك لم يملك قلبه عن محبته، فكيف لا يحب العبد بكل قلبه وجوارحه من يحسن إليه على الدوام بعدد الأنفاس مع إساءته .
كل من تحبه من الخلق ويحبك إنما يريدك لنفسه وغرضه منك، والله سبحانه يريدك لك، وأيضًا فكل من تعامله من الخلق إن لم يربح عليك لم يعاملك، ولا بد له من نوع من أنواع الربح، والرب تعالى إنما يعاملك لتربح عليه أعظم الربح وأعلاه، فالدرهم بعشرة أمثاله إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والسيئة بواحدة وهي أسرع شيء محوًا.
إن الله سبحانه خلقك لنفسه وخلق كل شيء لك في الدنيا والآخرة، فمن أولى منه باستفراغ الوسع في محبته وبذل الجهد في مرضاته؟! .
إن مطالبك – بل مطالب الخلق كلهم جميعًا – لديه وهو أجود الأجودين، وأكرم الأكرمين، أعطى عبده قبل أن يسأله فوق ما يؤمله، يشكر القليل من العمل وينميه، ويغفر الكثير من الزلل ويمحوه ﴿يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمن: 29]، لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه كثرة المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، بل يحب الملحين في الدعاء، ويحب أن يسأل، ويغضب إذا لم يسأل، ويستحي من عبده حيث لا يستحي العبد منه، ويستره حيث لا يستر نفسه، ويرحمه حيث لا يرحم نفسه، دعاه بنعمه وإحسانه وأياديه إلى كرامته ورضوانه فأبى، فأرسل رسله في طلبه وبعث معهم عهده، ثم نزل إليه سبحانه بنفسه وقال: «من يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له» [البخاري، مسلم، الترمذي، أبو داود].
كيف لا يحب القلب من لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يجيب الدعوات ويقيل العثرات ويغفر الخطيئات ويستر العورات ويكشف الكربات ويغيث اللهفات وينيل الطلبات سواه؟ فهو أحق من ذكر، وأحق من شكر، وأحق من عبد، وأحق من حمد، وأنصر من ابتغى، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى، وأرحم من استرحم، وأكرم من قصد، وأعز من التجئ إليه، وأكفى من توكل عليه، أرحم بعبده من الوالدة بولدها، وأشد فرحًا بتوبة التائب من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة إذا يئس من الحياة ثم وجدها .
إن محبة الله عز وجل هي حياة القلوب، وغذاء الأرواح، وليس للقلب لذة ولا فلاح ولا حياة إلا بها، وإذا فقدها القلب كان ألمه أعظم من ألم العين إذا فقدت نورها، والأذن إذا فقدت سمعها، بل فساد القلب إذا خلا من محبة فاطره وبارئه وإلهه الحق أعظم من فساد البدن إذا خلا من الروح، وهذا الأمر لا يصدق به إلا من فيه حياة.
من الأسباب الجالبة للمحبة الموجبة لها : قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به كتدبر الكتاب الذي يحفظه العبد ويشرحه ليتفهم مراد صاحبه منه.
من الأسباب الجالبة للمحبة الموجبة لها : التقرب إلى الله عز وجل بالنوافل بعد الفرائض كما قال تعالى في الحديث القدسي: «وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه» [البخاري].
من الأسباب الجالبة للمحبة الموجبة لها : دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال، فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من هذا الذكر.
من الأسباب الجالبة للمحبة الموجبة لها : إيثار محابّه على محابّك عند غلبات الهوى والتسنم إلى محابه وإن صعب المرتقى.
من الأسباب الجالبة للمحبة الموجبة لها : مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتها ومعرفتها وتقلبه في رياض هذه المعرفة ومباديها، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه لا محالة، ولهذا كانت المعطلة والجهمية قطاع الطرق على القلوب بينها وبين الوصول إلى المحبوب.
من الأسباب الجالبة للمحبة الموجبة لها : مشاهدة بره وإحسانه وآلائه ونعمه الباطنة والظاهرة فإنها داعية إلى محبته.
من الأسباب الجالبة للمحبة الموجبة لها : وهو من أعجبها: انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى، وليس في التعبير عن هذا المعنى غير الأسماء والعبارات.
من الأسباب الجالبة للمحبة الموجبة لها : الخلوة به وقت النزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه والوقوف بالقلب والتأدب بأدب العبودية بين يديه ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.
من الأسباب الجالبة للمحبة الموجبة لها : مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقي أطايب الثمر، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام وعلمت أن فيه مزيدًا ومنفعة لغيرك.
من الأسباب الجالبة للمحبة الموجبة لها : مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عزَّ وجلَّ. فمن هذه الأسباب العشرة وصل المحبون إلى منازل المحبة ودخلوا على الحبيب.
قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: 222]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا﴾ [الصف: 4]. أخبر عز وجل أنه لا يعذب من يحبه فرد على الذين ادعوا أنهم أحباء الله عز وجل بقوله: ﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ﴾ [المائدة: 18]. وشرط للمحبة غفران الذنوب فقال: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [آل عمران: 31].
من علامات محبة الله عز وجل للعبد حسن التدبير له يريبه في الطفولة على أحسن نظام، ويكتب الإيمان في قلبه، وينور له عقله فيتبع كل ما يقرب منه، وينفر عن كل ما يبعده عنه، ثم يتولاه بتيسير أموره من غير ذل للخلق، ويسدد ظاهره ويجعل همه واحدًا، فإذا زادت المحبة شغله به عما سواه.
من علامات محبة الرب جل وعلا: حب لقاء الله تعالى في الجنة، ومنها أن يكون مؤثرًا ما أحبه الله تعالى على ما يحبه في ظاهره وباطنه، فيتجنب إتباع الهوى ويعرض عن الدعة والكسل،ويدل على ذلك حديث نعمان أنه كان يؤتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحده إلى أن أتي به يومًا فلعنه رجلٌ وقال: ما أكثر ما يؤتي به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله» [البخاري]. وقال الحافظ في فوائد الحديث: فيه أن تنافي ارتكاب النهي وثبوت محبة الله ورسوله في قلب المرتكب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن المذكور يحب الله ورسوله، مع وجود ما صدر منه، وأن من تكررت منه المعصية لا تنزع منه محبة الله ورسوله، ويؤخذ منه تأكيد ما تقدم أن نفي الإيمان عن شارب الخمر لا يُراد به زواله بالكلية؛ بل نفي كماله كما تقدم، فلم تخرجه المعصية عن المحبة، وإنما أخرجته عن كمالها.
من علامات محبة الرب جل وعلا: أن يكون محبًّا لكلام الله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولأهل الإيمان.
من علامات محبة الرب جل وعلا: أن يكون أنسه بالخلوة ومناجاة الله تعالى وتلاوة كتابه؛ فيواظب على التهجد، ويغتنم هدوء الليل، وصفاء الوقت بانقطاع العوائق فأقل درجات الحب التلذذ بالخلوة بالحبيب، والتنعم بمناجاته.
من علامات محبة الرب جل وعلا: : أن يكون شفيقًا على المسلمين رحيمًا بهم شديدًا على أعدائه كما قال تعالى: ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: 29]، ولا تأخذه في الله لومة لائم .
سئل الحسن البصري – رحمه الله – فقيل له يا أبا الحسن: رحمك الله كيف نستعين على غض أبصارنا؟ فقال: بأن تتأمل أن نظر الله سبحانه وتعالى إليك أسرع من نظرك إلى الصورة المحرمة.