فوائد من كتاب أحصاه الله ونسوه لعبد الملك القاسم 3
قال النبى صلى الله عليه وسلم : "من كان له وجهان في الدنيا كان له لسانًا من نار يوم القيامة" (رواه أبو داود وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة) .
قال النبى صلى الله عليه وسلم: "تجدون من شر عباد الله يوم القيامة ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بحديث وهؤلاء بحديث" أخرجه الشيخان نحوه وهو عند أبي الدنيا بهذا اللفظ. فإن قلت: بماذا يصير الرجل ذا لسانين وما حد ذلك؟ فأقول إذا دخل على متعاديين وجامل كل واحد منهما وكان صادقا فيه لم يكن منافقا ولا ذا لسانين، فإن الواحد قد يصادق متعاديين ولكن صداقة ضعيفة لا تنتهي إلى حد الأخوة، إذ لو تحققت الصداقة لاقتضت معاداة الأعداء، نعم لو نقل كلام كل واحد منهما إلى الآخر فهو ذو لسانين وهو شر من النميمة (الإحياء) .
الكذب من قبائح الذنوب وفواحش العيوب. قال الله تعالى: " وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ " [الإسراء: 36].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا" (متفق عليه) .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أربع من كن فيه، كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها، إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" (متفق عليه) .
أخي الحبيب : إياك والكذب فإنه يفسد عليك تصور المعلومات على ما هي عليه، ويفسد عليك تصويرها وتعليمها للناس، فإن الكاذب يصور المعدوم موجودًا، والموجود معدومًا، والحق باطلاً، والباطل حقًّا، والخير شرًّا، والشر خيرًا، فيفسد عليه تصوره وعلمه عقوبة له، ونفس الكاذب معرضة عن الحقيقة الموجودة نزاعة إلى العدم مؤثرة للباطل (الفوائد) .
أول ما يسرى الكذب من النفس إلى اللسان فيفسده ثم يسري إلى الجوارح فيفسد عليها أعمالها كما أفسد اللسان أقواله فيعم الكذب أقواله وأعماله وأحواله، فيستحكم عليه الفساد ويترامى داؤه إلى الهلكة إن لم يتداركه الله بدواء الصدق يقلع تلك المادة من أصلها (الفوائد) .
قال الحسن : تكلم قوم عند معاوية رحمه الله والأحنف بن قيس ساكت، فقال له: ما لك يا أبا بحر لا تتكلم؟ فقال له: أخشى الله إن كذبت وأخشاك إن صدقت (الإحياء) .
افترى رجل على زين العابدين بين الحسين فقال له: إن كنت كما قلت فاستغفر الله، وإن لم أكن كما قلت، فالله يغفر لك، فقبل رأسه وقال: جعلت فداك لست كما قلت، فاغفر، قال: غفر الله لك ( شذرات الذهب ) .
قال رجل للشعبي كلاما أقذع فيه فقال له: إن كنت صادقا غفر الله لي وإن كنت كاذبا غفر الله لك (وفيات الأعيان) .
أصل أعمال القلوب كلها الصدق وأضدادها من الرياء والعجب والكبر والفخر والخيلاء والبطر والأشر والعجز والجبن والمهانة وغيرها أصلها الكذب، فكل عمل صالح ظاهر أو باطن فمنشؤه الصدق، وكل عمل فاسد ظاهر أو باطن فمنشؤه الكذب، والله تعالى يعاقب الكذاب بأن يقعده ويثبطه عن مصالحه ومنافعه ويثيب الصادق بأن يوفقه للقيام بمصالح دنياه وآخرته، فما استجلبت مصالح الدنيا والآخرة بمثل الصدق، ولا مفاسدهما ومضارهما بمثل الكذب (الفوائد) .
قال عبد الله بن عامر: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيتنا وأنا صغير، فذهبت لألعب فقالت أمي: يا عبد الله تعالى حتى أعطيك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وما أردت أن تعطيه" قالت: تمرا، فقال: "أما إنك لو لم تفعلي لكتبت عليك كذبة" رواه أبو داود.
سمع طلحة بن أبي مصرف رجلا يعتذر إلى رجل فقال: لا تكثر الاعتذار إلى أخيك أخاف أن يبلغ بك الكذب (تذكرة الحفاظ) .
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أعظم الخطايا عند الله اللسان الكذوب وشر الندامة ندامة يوم القيامة (الإحياء) .
لما حضرت عبد الله بن عمرو الوفاة قال : إنه كان خطب إلي ابنتي رجل من قريش، وقد كان مني إليه شبيه الوعد، فو الله لا ألقى الله عز وجل بثلث النفاق، اشهدوا أني قد زوجتها أياه (صفة الصفوة) .
جاءت أخت الربيع بن خثيم عائدة إلى بني له، فأنكبت عليه، فقالت: كيف أنت يا بني؟ فقال الربيع: أرضعتيه؟ قالت: لا، قال: ما عليك لو قلت يا ابن أخي، فصدقت (كتاب الصمت) .
قال الأحنف بن قيس : ما كذبت منذ أسلمت إلا مرة واحدة، فإن عمر سألني عن ثوب: بكم أخذته؟ فأسقطت ثلثي الثمن (كتاب الصمت) .
كان أبو حنيفة قد جعل على نفسه أن لا يحلف بالله في عرض كلامه إلا تصدق بدرهم، فحلف فتصدق به ثم جعل أن يتصدق بدينار، فكان إذا حلف صادقا في عرض الكلام تصدق به، وكان إذا أنفق على عياله نفقة تصدق بمثلها، وكان إذا اكتسى ثوبا جديدا كسى بقدر ثمنه الشيوخ العلماء، وكان إذا وضع بين يديه الطعام أخذ منه فوضعه على الخبز حتى يأخذ منه بقدر ضعف ما كان يأكل، فيضعه على الخبز ثم يعطيه إنسانا فقيرا، فإن كان في الدار من عياله إنسان يحتاج إليه دفعه إليه، وإلا أعطاه مسكينًا (تاريخ بغداد) .
عن أبي بردة بن عبد الله قال كان يقال: إن ربعي بن حراش رضي الله عنه لم يكذب كذبا قط، فأقبل ابناه من خرسان قد تأجلا فجاء العريف إلى الحجاج فقال: أيها الأمير: إن الناس يزعمون أن ربعي بن حراش لم يكذب قط، وقد قدم ابناه من خرسان وهما عاصيان، فقال الحجاج علي به فلما جاء قال: أيها الشيخ، قال: ما تشاء؟ قال: ما فعل ابناك؟ قال: الله المستعان خلفتهما في البيت؟ قال: لا جرم والله لا أسوءك فيهما هما لك (كتاب الصمت) .
كان إبراهيم النخعي إذا طلبه من يكره أن يخرج إليه وهو في الدار قال للجارية: قولي له اطلبه في المسجد ولا تقولي له ليس ههنا كيلا يكون كذبا.
الاستهزاء : مما شاع بين الناس وفي بعض المجالس السخرية والاستهزاء وهو محرم قال تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ " [الحجرات: 11]. ومعنى السخرية الاستهانة والتحقير والتنبيه على العيوب والنقائص وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء (الإحياء) .
أشد أنواع الاستهزاء : الاستهزاء بالدين وأهله، ولخطورته وعظم أمره فقد أجمع العلماء على أن الاستهزاء بالله وبدينه وبرسوله كفر بواح، يخرج من الملة بالكلية. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر صاحبه بعد إيمانه ( الفتاوى) .
" وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ " [الآيتان: 65، 66] وقد ورد في سبب نزولها أن رجلا من المنافقين قال : ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا، وأكذبنا ألسنة، وأجبنا عند اللقاء فرفع ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال يا رسول الله: إنما كنا نخوض ونلعب فقال: " أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ " إلى قوله: "مُجْرِمِينَ " وإن رجليه لتنسفان الحجارة وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متعلق بنسعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ( تفسير ابن كثير) . وثابت من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أرحم الناس بالناس، وأقبل الناس عذرا للناس، ومع ذلك كله لم يقبل عذرا لمستهزئ ولم يلتفت لحجة ساخر ضاحك(الاستهزاء بالدين وأهله) .
قال الله تعالى: " قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ " [المؤمنون: 108-111]. وقال جل وعلا: " وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا " [الأحزاب: 58]. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليضحك بها جلساءه يهوي بها من أبعد من الثريا" رواه أحمد .
قال عبد الله بن مسعود: لو سخرت من كلب، لخشيت أن أكون كلبا، وإني أكره أن أرى الرجل فارغا ليس في عمل آخرة ولا دينا (السير) .
قال مالك بن دينار : كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينا للخونة، وكفى المرء شرا أن لا يكون صالحا ويقع في الصالحين (صفة الصفوة).
كان علي بن الحسين يقول : لا يقول رجل من الخير ما لا يعلم ، إلا أوشك أن يقول من الشر ما لا يعلم (البداية والنهاية) .
وصف هند بن أبي هالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان: دائم الفكرة، ليست له راحة ولا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت وكان يخزن لسانه إلا عما يعنيه، يؤلف أصحابه ولا يفرقهم(الرحيق المختوم للمباركفوري) .
كان النبى صلى الله عليه وسلم يتكلم بجوامع الكلم لا فضول ولا تقصير كأنه يتبع بعضه بعضا بين كلامه توقف يحفظه سامعه ويعيه (الإحياء) .