1. فوائد من كتاب أثر المرء في دنياه لمحمد موسى الشريف
حكمــــــة
قال الإمام ابن كثير الدمشقي رحمه الله تعالى: (ونكتب ما قدموا): أي من الأعمال. وفي قوله: (وءاثارهم) قولان: أحدهما: نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم، وآثارهم التي أثروها من بعدهم فيجزيهم على ذلك أيضاً، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. كقوله صلى الله عليه وسلم: (مَن سنَّ في الإسلام سُنّة حسنة كان له أجرها وأجر مَن عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومَن سنّ في الإسلام سُنّة سيئة كان عليه وزرها ووزر مَن عمل بها من بعده من غير أن يُنقص من أوزارهم شيئاً) [رواه مسلم].ثم ذكر الإمام ابن كثير أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية في قصة الوفد من المضريين، وهي قصة مشورة ستأتي إن شاء الله تعالى.ثم قال: والقول الثاني: أن المراد بذلك آثار خطاهم إلى الطاعة أو المعصية.
حكمــــــة
قال صلى الله عليه وسلم: (مَن سنَّ في الإسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر مَن عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومَن سنّ في الإسلام سنّة سيئة كان عليه وزرها ووزر مَن عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء) أخرجه الإمام مسلم. قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: (وكان الفضل العظيم للبادىء بهذا الخير، والفاتح لباب هذا الإحسان) صحيح مسلم شرح النووي. وهذا الرجل الأنصاري كان له فضل السبق في تأسيس هذا المعروف، لذلك مدحه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (مَن سنّ في الإسلام سنّة حسنة...) وفي هذا بيان لفضل المبادرة إلى سن الأعمال الصالحة العظيمة التي يقتدي الناس بسانِّها ومبتدئها
حكمــــــة
جاء في الحديث أن صلة الرحم لها عمل في بقاء الأثر- على أحد التفاسير للحديث- فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيصلى الله عليه وسلم قال: (تعلّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم مَحَبةٌ في الأهل، مثراةٌ في المال، مَنْسَاة في الأثر) أخرجه الإمام الترمذي في سننه. وقد جاء في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: (منسأة في الأثر) عدة أقوال:أولها: أن صلة الرحمة سبب لتأخير الأجل وزيادة العمر. ثانيها: أن صلة الرحم باعث دوام واستمرار في النسل، والمعنى أن بركة الصلة تفضي إلى هذا.وثالثها: أن صلة الرحم تؤدي إلى حصول البركة والتوفيق في العمل وعدم ضياع العمر فكأنه زاد.ورابعها: أن صلة الرحم سبب لبقاء ذكره الجميل بعده، وهذا القول كأنه مترتب على القول السابق ومقتضِ له.
حكمــــــة
الآثار نتائج أعمال حسية ومعنوية: فالحسية: هي المشاهدة المحسوسة مثل: بناء المساجد، وحفر الآبار، وتشييد الأوقاف، إلى آخر ما يمكن أن يبقى في الأرض من آثار لتلك الأعمال. وأما المعنوية فهي آثار تعليم العلوم، والدعوة إلى الله تعالى، وما يمكن أن يبقى في الأرض بعد موت صاحبه أطول بكثير من بقاء آثار الأعمال المحسوسة.
حكمــــــة
الآثار من جملة الأقدار: فالأثر الذي سيحدثه العبد في هذه الدار والذي سيتركه من بعده، هو من جملة ما قُدر عليه، وقد جاء في السنّة هذا واضحاً، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يدخل الملَك على النطفة بعد أن تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة وأربعين ليلة، فيقول: يارب، أشقى أو سعيد؟ فيُكتبان. فيقول: أي ربِّ، أذكرٌ أو أنثى؟ فيُكتبان. ويُكتب عمله، وأثره، وأجله، ورزقه، ثم تُطوى الصحف فلا يُزاد فيها ولا يُنقص) صحيح مسلم.
حكمــــــة
تفاوت الآثار المحمودة: والآثار المحمودة متفاوتة، فمن آثار عظيمة كالجبال الرواسي إلى آثار محدودة النفع لكنها محمودة على كل حال، يذكر الناس أصحابها بخير ويدعون لهم. وبين الآثار العظيمة والآثار الصغيرة أقدار من الآثار، وفضائل ودرجات لا يعلمها إلا الله تعالى، وتتفاوت بتفاوت الآثار درجات الأخيار، وتعلو درجاتهم تبعاً لعظم آثارهم.
حكمــــــة
عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه وقد توفي وهو في الأربعين. سيبويه: عملاق النحو العربي، وتارك الأثر الجليل (الكتاب) الذي هو بمثابة دستور للنحاة واستفاد منه ملايين العلماء وطلبة العلم، مات ولم يبلغ الأربعين بل كان عمره يناهز الثالثة والثلاثين فقط رحمه الله تعالى، ويُعد إمام النحاة، وأول من بسط علم النحو.
حكمــــــة
من ترك أثراً جليلاً ومات وهو في الأربعينات من عمره فيحضرني مثالان عظيمان: الإمام النووي، وسيأتي الحديث عنه في ثنايا هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، وقد مات وهو في الرابعة والأربعين أو الخامسة والأربعين من عمره المبارك. الإمام حسن البنا رحمه الله تعالى، وقد مات وهو في الثالثة والأربعين من عمره المبارك، وقد غير الدنيا، وشغل الناس، وترك آثاراً جليلة في الأرض: رجالاً ومؤسسات وكتباً ومشروعات تملأ جوانب الأرض، وهذا فضل الله تعالى يؤتيه من شاء من عباده.
حكمــــــة
الحفاظ على الأوقات: إن العامل لترك الأثر بجِد واجتهاد يسخر حياته لهذا الهدف، وأوقاته تكون معمورة بالعمل الصالح، فيتجنب سفساف الأمور ودناياها، ويرتقي إلى المعالي والكمالات، فيكون بعيداً عن المؤثرات الدنيوية التافهة التي ملأت حياة الناس ضعفاً، وإخلاداً إلى الأرض، وهذا في حد ذاته – ولو لم يصل المرء به إلى تحقيق أثر عظيم – هو مكسب كبير للشخص وحافظ له وأي حافظ.
حكمــــــة
الترقي إلى الكمال: إن العامل لترك الأثر العظيم بحاجة إلى استدراك جملة من الأمور في نفسه، فتجده دائم الرغبة في تغيير صفاته وأحواله إلى الأفضل والأحسن، عاملاً على استكمال جوانب الشخصية الإسلامية الجيدة، معالجاً لجوانب النقص في نفسه، لائماً لها على التقصير والإهمال، فربما التحق بالدورات المتعددة، وربما قرأ الأبحاث المتخصصة في هذا الجانب، وربما عَرّج على أصحاب الكمالات ينهل من معينهم، فالعامل إذاً لترك الأثر هو مصلِح لنفسه من حيث يشعر أو لا يشعر، وإصلاح النفوس مقصد مهم من مقاصد الشريعة.
حكمــــــة
القدوة الحسنة: إن العامل لترك الأثر العظيم إنما هو قدوة مهمة للعاملين الذين قد تتناوشهم المطالب التافهة، وقد يعرضون عن مواصلة العمل، فإذا رأوا العامل لترك الأثر ولحظوا جدَّه واجتهادَه رجعت إليهم نفوسهم وتجدد لهم نشاطهم، وما أحوج العاملين اليوم إلى قدوات قوية في عصر انتكس فيه الكثير، وضعفت فيه همم الكثير، وتخلّى فيه كثير من الدعاة والصالحين عن أهدافهم العليا إلى أمور دنيا، ولذلك كنا نحن مأمورين بالاقتداء بالنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم لأنه معصوم في هذا الباب لا يمكن أن يتطرق إليه ضعف، لكن النفوس جُبلت على اتباع من يعيش بينها، ويرون عمله وجِده واجتهاده.
حكمــــــة
استيعاب جهود الدعاة:إن العامل لترك الأثر العظيم يولد سلسلة من الأعمال المهمة؛ إذ قد ينشىء مؤسسات وهيئات تستوعب أعدداً ضخمة من الدعاة والصالحين الذين لا تستوعبهم جماعاتهم، ولا يجدون فرصاً للعمل الدعوي المنتج الجيد، فيأتي صاحب المشروع العظيم، الراغب في ترك الأثر الجليل ليحرك معه مئات وربما آلافاً من الدعاة الذين قعدت بهم هممهم أو مواهبهم عن العمل الدعوي، وفي هذا مكسب كبير؛ إذ أن مشكلة عدم استيعاب الطاقات المختلفة من أكبر المشكلات التي تهدد الدعاة اليوم.وقد لا يولد صاحب الأثر الجليل الأعمال المهمة لكنه يولد الأفكار الكثيرة المساعدة على قيام الأعمال المهمة، وهذا مكسب كبير.
حكمــــــة
إحياء الأمل وتجديد الثقة بانتصار الإسلام:إن العامل لترك الأثر العظيم يحيي الأمل في نفوس الكثيرين بعودة المسلمين إلى مجدهم، ويعظم اليقين والثقة في نفوسهم بانتصار المسلمين، وهذا لأن أكثر المسلمين بحاجة إلى أعمال عظيمة محسوسة يستندون إليها في بناء يقينهم وثقتهم وأملهم في عودتهم إلى الريادة والسيادة من جديد، فيأتي صاحب العمل العظيم ليحيي في نفوسهم هذه المعاني ويثبتهم، وهذا مطلب عظيم مهم.
حكمــــــة
مَن منا لم تحيا نفسه بالأمل واليقين لما رأى مشروع الشيخ أحمد ياسين وقد ملأ الدنيا وشغل الناس. ومَن لا تحيا نفسه عندما يرى عمل د. عبدالرحمن السميط في أفريقيا، وجهده المتواصل في ضد الفاتيكان وحزبه.وقد أتيت على ذكر الرجلين وعملهما في ثنايا هذه الرسالة لكني إنما أذكرهما هنا لمناسبتهما للموضوع.
حكمــــــة
هداية من جنح من المسلمين: إن العامل لترك الأثر العظيم قد يهدي به الله كثيراً من ضُلاَّل المسلمين الذين لا يجدون في هذا الدين إلا معاني العبادة الصرفة من صلاة وصيام، وهم يريدون تحقيق المجد في هذه الدار والانتصار على أعدائهم، لكنهم ضلُّوا الوسيلة الصحيحة، وتخبّطوا طويلاً، فإذا رأوا صاحب المشروع العظيم وأثره في دنيا الناس رجعوا إلى أنفسهم وأصلحوا مسيرتهم، ومثال على هذا: انفضاض كثير من الناس عن القومية واليسار والبعث لما رأوا مشروع الشيخ أحمد ياسين في فلسطين ونجاحاته المتواصلة، ووقوفه سداً منيعاً أمام إخوان القردة ونصرائهم في الغرب والشرق.فهذه بعض الفوائد المتحققة في دنيا الناس من جراء العمل الجاد المتواصل لترك الأثر النافع.
حكمــــــة
الفائدة الأخروية: وأما فائدته الأخروية فهي شيء عظيم، وبيان ذلك أن الدرجات العاليات في الجنة إنما هي لمن أنعم الله عليه من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، وقد سبقنا من هؤلاء العظماء المذكورين جملة هائلة من البشر يُعدُّون بمئات الملايين منذ آدم عليه الصلاة والسلام إلى الآن؛ إذ كم في الأمم قبلنا من رُسل وأنبياء، وكم لهم من أصحاب وأتباع، وكم جرى في الأرض من ملايين المعارك جرى فيها دم عشرات الملايين من الشهداء، وكم في الأمم قبلنا من صالحين لا يعدُّون ولا يحصون، ثم كم في أمتنا المحمدية الإسلامية من الشهداء والصالحين والأولياء والدعاة ممن لا يحصيهم إلا الله تعالى، ولأقرِّب للقراء ذلك فإني سأذكر جملة من الآيات والأحاديث التي تتناول الأمم السابقة، ثم أذكر ما يخص أمتنا الإسلامية.
حكمــــــة
كان الصحابي ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه موفَّقاً كل التوفيق عندما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (سَلْ) فقال: أسألك مرافقتك في الجنة فقال صلى الله عليه وسلم: (أوْ غير ذلك؟) فقال: هو ذاك فقال صلى الله عليه وسلم: (فأعِنِّي على نفسك بكثرة السجود)أخرجه الإمام مسلم. هذا – وهو صحابي – لم يضمن له النبي صلى الله عليه وسلم مرافقته في الجنة إلا إن عمل عملاً كبيراً يستحق به ذلك، وكان هذا العمل هو كثرة الصلاة.
حكمــــــة
كيفية ترك الآثار المحمودة الجليلة: وهو لب البحث، وخلاصة الأمر، ويقوم على أركان أربعة عظيمة لا بد لكل مَن أراد أن يترك أثراً عظيماً أن يقيمها في نفسه، ويتحقق بها، لعل الله أن يرزقه ترك الأثر الحسن والعمل النافع، وهذه الأركان هي: حُسن الصلة بالله تعالى. الصفات النفسية الجيدة. الهدف العظيم. العلم الواسع والثقافة المناسبة.
حكمــــــة
كيفية ترك الآثار المحمودة الجليلة: الركن الأول: حُسن الصلة بالله تعالى: وهو الأمر العظيم، والشيء الجليل، الذي إن تحقق للعبد فاز فوزاً عظيماً، وشملته العناية، وسهل أمره، وتذللت الصعاب بين يديه، وقفز الحواجز، وتخطى العقبات. والناس في ذلك متفاوتون تفاوتاً عظيماً، لكن لابد لمريد العظائم أن يفهم أنه لا بد أن يلتزم طرق الباب، والتذلل والانكسار على الأعتاب، وأن ذلك ديدن الرسل العظام والأنبياء الكرام.
حكمــــــة
عن هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى قال: مَن عادي لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرّب إلي عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي سمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورِجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه...) أخرجه الإمام البخاري. الله أكبر، إن هذا الحديث عظيم جليل، يبيِّن تمام التبيين ما نحن بصدده، فالذي يتقرّب إلى الله تعالى ويُحسن صلته به، ويديم التقرُّب – كما يدل عليه الفعل المضارع: (وما يزال عبدي يتقرب إليّ) سيدخل ساحة المحبة الإلهية، فإذا ولجها فلا تسل عن الكرم الإلهي الذي سيناله.
حكمــــــة
الشيخ ابن سُكينة شيخ العراق في الحديث والزهد وحُسن السمت وموافقة السُنّة والسلف، عُمِّر حتى حدّث بجميع مروياته، وقصده الطلاب من البلاد، وكانت أوقاته محفوظة، لا تمضي له ساعة إلا في تلاوة أو ذكر أو تهجُّد أو تسميع، وكان كثير الحج والمجاورة والطهارة، يديم الصوم غالباً، ويستعمل السنّة في أموره، ويحب الصالحين، ويعظِّم العلماء، ويتواضع للناس، ظاهر الخشوع، غزير الدمعة، وكان الله قد ألبسه رداءً جميلاً من البهاء، وحُسن الخِلقة، وقبول الصورة، ونور الطاعة، وجلالة العبادة، وكانت له في القلوب منزلة عظيمة، ومن رآه انتفع برؤيته، فإذا تلكم كان عليه البهاء والنور، لا يُشبع من مجالسته. لقد طفت شرقاً وغرباً ورأيت الأئمة والزهاد، فما رأيت أكمل منه ولا أكثر عبادة ولا أحسن سَمْتاً.
حكمــــــة
الشيخ الإمام العالم، الزاهد القدوة، عماد الدين إبراهيم بن عبدالواحد بن علي المقدسي الجُمّاعيلي، المتوفى سنة 614، كان يجلس في جامع البلد من الفجر إلى العشاء يقرئ القرآن والعلم، لا يخرج إلا لحاجة، فإذا فرغوا اشتغل بالصلاة، وكان من خيار الناس ومن أعظمهم نفعاً، وأشدهم ورعاً، ومن أكثرهم صبراً على التعليم، وكان داعية إلى السُنّة، أقام بدمشق مدة يعلّم الفقراء ويقرئهم، ويطعمهم ويتواضع لهم، وكان من أكثر الناس تواضعاً واحتقاراً لنفسه وخوفاً من الله تعالى، كثير الدعاء والسؤال لله تعالى، يطيل السجود والركوع بخشوع وخضوع، يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان إذا دعا تشهد القلوب بإجابة دعائه من كثرة ابتهاله وإخلاصه.
حكمــــــة
كيفية ترك الآثار المحمودة الجليلة: الركن الثاني: الصفات النفسية الجيدة: وهي مجموعة صفات لا بد من توافرها كلها أو أغلبها ليعظم العمل والأثر، فمن ذلك: الهمّة العالية: وهي على رأس تلك الصفات المهمة، لأن مَن علت به همته عظم عمله، وحسن أثره، وارتفع قدره، ومَن سلفت به همته نقصت منزلته، وضعف عمله وأثره، مهما كان له من مواهب وملكات، ومهما حاز من قدرات، وكم رأينا من أشخاص أصحاب قدرات متوسطة، وملكات ومواهب ليست متميزة، لكنهم بهمتهم العالية تجاوز نقصهم، وأصبح لهم آثار نافعة وأعمال جليلة. والأنبياء والرسل كله أصحاب همّة عالية وعمل دؤوب، وكل مَن اقتفى أثرهم راغباً اللحاق بهم كان من أهل الهمم العالية.
حكمــــــة
بعض الأمثلة على أصحاب الهمم العالية الذين تركوا الآثار الجليلة: هذا الإمام مالك بن أنس رحمه الله إمام دار الهجرة قد روى عنه الإمام ابن القسام هذه الحادثة: (كنت آتي مالكاً غلساً فسأله عن مسألتين، ثلاثة، أربعة وكنت أجد منه انشراح الصدر، فكنت آتي كلّ سحر، فتوسدت مرة في عتبته، فغلبتني عيني فنمت، وخرج مالك إلى المسجد فلم أشعر به، فركضتني سوداء له برجلها وقالت لي: إن مولاك لا يغفل كما تغفل أنت، اليوم له تسع وأربعون سنة ما صلّى الصبح إلا بوضوء العَتَمَة، ظنّت السوداء أنه مولاه من كثرة اختلافه إليه).
حكمــــــة
بعض الأمثلة على أصحاب الهمم العالية الذين تركوا الآثار الجليلة: وصف الإمام النوويّ حياته لتلميذه أبي الحسن ابن العطار فذكر له أنه كان يقرأ كل يوم اثني عشر درساً على مشايخه شرحاً وتصحيحاً: درسين في (الوسيط)، ودرساً في (المهذب)، ودرساً في (صحيح مسلم)، ودرساً في (اللُمَع) لابن جنّي، ودرساً في أصول الفقه، ودرساً في أسماء الرجال، ودرساً في أصول الدين، قال: وكنت أعلّق جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل ووضوح عبارة، وضبط لغة، وبارك الله تعالى في وقتي).
حكمــــــة
الإمام أبو القاسم بن عساكر قال عنه أبو المواهب بن صَصْري: (لم أرَ مثله، ولا مَن اجتمع فيه ما اجتمع فيه من لزوم طريقة واحدة مدة أربعين سنة، من لزوم الصلوات في الصف الأول إلا من عذر، والاعتكاف في شهر رمضان وعشر ذي الحجة، وعدم التطلع إلى تحصيل الأملاك وبناء الدور، قد أسقط ذلك عن نفسه، وأعرض عن طلب المناصب من الإمامة والخطابة وأباها بعد أن عُرضت عليه، وأخذ نفسه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم).
حكمــــــة
الشيخ كمال العباسيّ الكجراتيّ الهنديّ كان (من عوائده أنه كان يستيقظ في الليل إذا بقي ثلثه فيغتسل ويتهجد، ويقرأ سبعة أجزاء من القرآن في الصلاة، ثم يدعو بالأدعية المأثورة، ثم يذكر الله سبحانه، ثم يصلي الفجر، ثم يشتغل بتلاوة القرآن إلى صلاة الإشراق، ثم يصلي ويجلس للدرس والإفادة فيدرس إلى زوال الشمس، ثم يتغدّى ومعه جماعة من المحصلين عليه، ثم يقيل ساعة، ثم يصلي الظهر، ثم يجلس للإفتاء فيشتغل به إلى العصر، ثم يصلي، ثم يشتغل به، ثم يصلي ويُقبل على أصحابه، فيتحدث معهم إلى العشاء، ثم يدخل في حجرته ويشتغل بمطالعة كتبه التي يدرسها إلى الثلث الأول من الليل، ثم يدخل في المنزل، وكان من الخامس عشرة من سنة إلى أربع وخمسين صرف عمره على هذا الطريق).
حكمــــــة
الثبات: وهو رأس الأمر، وعمود عمل كل راغب بترك الأثر، إذا لا يمكن هذا إلا بثبات راسخ شامخ وعلة أكثر العاملين اليوم قلة الثبات، والتذبذب والتردد والانسلاخ والانتكاس، وهذا يضعف العمل، بل ربما يُذهبه ويذهب أثره في الناس، بينما صاحب الثبات ولو قلّ عمله لا بد أن يظل له أثر في دنيا الناس. ومريد ترك الأثر العظيم النافع لا بد أن يعلم أن الثبات عدة له عظيمة، لأن المصاعب التي ستعترضه شديدة، والحواجز والعقبات كثيرة، فما لم يوطن نفسه على الثبات والعمل الدائم المتصل فإنه سرعان ما سينهزم من الساحة، ويخلد إلى السكون والراحة.
حكمــــــة
من قلة الثبات عند العاملين: تنقله من مشروع إلى مشروع، وهذا يذهب بأثره أدراج الرياح، إذ للأثر العظيم النافع الباقي في الأرض شرط مهم وهو أن يسقيه صاحبه بجهده طيلة حياته، ويرعاه حتى يستوي على سوقه، ويبلغ درجة يستطيع بها إذا تركه صاحبه إلى الدار الآخرة أن يقوم بنفسه، وأن يستعصي على عاديات الزمان، أما إن ظلّ العامل سنة هنا وسنتين هناك وثلاثاً هنالك، ثم ظلّ يتنقل هكذا سائر عمره، فكيف نرجو له أثراً نافعاً وعملاً سائغاً؟
حكمــــــة
كان النبي الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم سيد المتفائلين ومقدّم الواثقين، لا تزحزحه أعاصير الأحداث العظام، ولا تؤثر في ثقته وتفاؤله المِحَن والزلازل. وكان يبشر سراقة بلبس سواري كسرى وهو مهاجر مهدَّد. وكان يبشر أصحابه في الخندق بفتح فارس والروم واليمن وهم في أشد الساعات حلكة وخوفاً.انظر مسند الإمام أحمد.
حكمــــــة
كان النبى صلى الله عليه وسلم يطمْئِن أصحابه ويبشرهم وهم تحت العذاب في مكة، فعن خباب بن الأرثّ رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو محمرِّ وجهه فقال: (لقد كان من قبلكم ليُمشط بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مَفْرِق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه). أخرجه الإمام البخاري.
حكمــــــة
الشجاعة والإقدام: وهما صفتان لازمتان لكل من يريد ترك الأثر النافع، فإن الدنيا لم تُخلق للجبان، ولا للمتقاعس المتردد الضعيف، والحياة فرص مَن اغتنمها فاز، ومَن تخلّف عنها تجرّع الغُصَص، ولا تعني الشجاعة التهوُّر، لا، بل هي أمرٌ بين الجُبن والخور وبين التهور والزمان لا ينظر المترددين الوجلين، ولا شديدي الحذر الخائفين، الذين يقدمون رِجلاً ويؤخرون أخرى، والذين يقفون عقبة في وجه كل مشروع نافع، ولئن سألتهم عملاً نافعاً سارعوا برده وتهويل شأنه، ولئن طلبت منهم المشورة تبرعوا بسيل من التخويفات والتيئيسات، لذلك كانت العرب تنهى استشارة الجبان الخائف.
حكمــــــة
متى قوي إيمان العبد بالله وبقضائه وقدره، وقوي يقينه بالثواب والعقاب، وتمّ توكَّله على الله، وثقته بكفاية الله، وعلم أن الخلق لا يضرون ولا ينفعون، وأن نواصيهم بيد الله، وعلم الآثار الجليلة الناشئة عن الشجاعة: قوي قلبه، واطمأن فؤاده، وأقدم على كل قول وفعل ينفع الإقدام عليه. ولا بد لمَن كانت هذه حاله أن يمده الله بمدد من عنده لا يدركه بحوله ولا قوته.
حكمــــــة
كمال زينة خلق الشجاعة أن يكون موافقاً للحكمة، فإنه إن زاد عن حد الحكمة خُشي أن يكون تهوراً وسفيهاً، وإلقاء باليد إلى التهلكة، وذلك مذموم كما يُذم الجبن والخَوَر، فالشجاعة المحمودة تتوسط خلقين ذميمين وهما الجبن والتهور، وتكون محمودة إذا كان المقصود بها نصر الحق، ورد الباطل، وتحصيل المنافع العامة والمصالح المشتركة).
حكمــــــة
الجدية: والجدية (حالة من التقيظ المتواصل المستديم تتيح استغلالاً وافراً لطاقات الدعاة في سد الحاجات واستثمار الفرص دون تعطيل لشيء منها، وهذه الجدية الدائمة منضبطة بما ذكره الرافعي: (إن روح العمل الدائم تكون فيما يشق بعض المشقة ولا يبلغ العسر والحرج، كما تكون فيما يسهل بعض السهولة ولا يبالغ الكسل والإهمال).
حكمــــــة
يقول الإمام البنّا – رحمه الله تعالى – واصفاً الجدية: (أستطيع أن أتصور المجاهد: شخص قد أعدّ عُدّته، وأخذ أهْبته، وملك عليه الفكر فيما هو فيه نواصي نفسه وجوانب قلبه، فهو دائم التفكير، عظيم الاهتمام، على قدم الاستعداد أبداً، إن دُعي أجاب، أو نودي لبّى، غدوه ورواحه وحديثه وكلامه وجده ولعبه لا يتعدى الميدان الذي أعدّ نفسه له) وفي الوقت نفسه يصف عكس حال المجاهد الجاد فيقول: (الذي ينام ملء جفنَيه، ويأكل ملء ماضغَيه، ويضحك ملء شدقَيه، ويقضي وقته لاهياً لاعباً عابثاً فهيهات أن يكون من الفائزين أو يُكتب في عداد المجاهدين).
حكمــــــة
يخاطب الإمام المودودي – رحمه الله تعالى – الأمة حاثاً لها على الجد: من لوازم المجاهدة في سبيل الله تعالى حماسة القلب وتعلقه بالغاية... إن من الواجب أن تكون في قلوبكم نار متقدة تكون في ضرامها على الأقل مثل النار التي تتقد في قلب أحدكم عندما يجد ابناً له مريضاً ولا تدعه حتى تجره إلى الطبيب، أو عندما لا يجد في بيته شيئاً يسد به رمق حياة أولاد فتقلقه وتضطره إلى بذل الجهد والسعي.
حكمــــــة
من الواجب أن تكون في صدوركم عاطفة صادقة تشغلكم في كل حين من أحيانكم في سبيل غايتكم، تعمر قلوبكم بالطمأنينة، وتكسب لعقولكم الإخلاص والتجرد، تستقطب عليها جهودكم وأفكاركم بحيث إن شؤونكم الشخصية وقضاياكم العائلية إذا استرعت اهتمامكم فلا تلتفتون إليها إلا مكرهين، وعليكم بالسعي ألا تنفقوا لمصالحكم وشؤونكم الشخصية إلا أقل ما يمكن من أوقاتكم وجهودكم، فتكون معظمها منصرفة لما اتخذتم لأنفسكم من الغاية في الحياة.
حكمــــــة
الركن الثالث: الهدف العظيم: وهو ركن ركين، لا بد منه لكل طالب أثر عظيم، وذلك بأن ينظر حوله يمنة ويسرة متطلباً الثغرات ليعالجها؛ إذ في عالمنا الإسلامي اليوم ثغرات كثيرة، فليعزم على أن يسد ثغرة من تلك الثغرات، وسبيله هو:أن ينظر في ملكاته ومواهبه، وما وضعه الله تعالى فيه من قدرات. ثم لينظر إلى تلك الثغرات نظر فاحص متأمّل ثم ليختر منها ثغرة تميل نفسه إلى العمل على سدِّها، وتساعده قدراته ومواهبه على هذا ولا ينسَ أن ينظر إلى بيئته ومجتمعه، وأحوال زمانه، وما يتيسر له من العمل على ضوئها لا بد لكل راغب في أن يترك أثراً عظيماً أن يكون هدفه عظيماً، وبمقدار عظم الهدف يعظم الأثر ويرسخ.
حكمــــــة
محذور خطير: ليحذر صاحب مشروع ترك الأثر النافع أن يضحك عليه الشيطان، ويصرفه عن استهداف الأثر العظيم بآخر مرجوح، وهذا يحدث لجملة كبيرة من الصالحين، فتراه عاملاً نشيطاً لكن لهدف صغير أو مرجوح بالنظر إلى قدراته وما يستطيعه، وأعرف أصحاباً لي كذلك شغلوا أنفسهم حيناً من الدهر ليس بالقصير في إتيان الأعمال المرجوحة، والانشغال بالأهداف الصغيرة التي يتمكن آخرون أقل مواهب منهم وقدرات من عملها بسهولة.
حكمــــــة
خطوات الشيطان: أن يزين لمن يوسوس له من أصحاب المواهب المتميزة أن يشتغل بحاجات الفقراء والمساكين، فيظل ليله ونهاره في دوّامة من العمل والاجتهاد النافع لكنه في حقه مرجوح، إذ يمكن له أن يكون عالماً لحُسن حفظه وفهمه، أو أن يكون داعية للباقته وحصافته، إلى آخر ما يمكن له عمله من الأعمال التي تنفع المسلمين أكثر مما ينفعهم بعمله هذا.
حكمــــــة
خطوات الشيطان: أن يزين له أن يعمل بعمل وظيفي يستغرق ساعات نهاره، وإذا قيل له: غيِّر عملك هذا إلى عمل آخر أقل بساعتين أو ثلاث من عملك الطويل هذا، تردد طويلاً وخاف من التغيير والتبديل.ولو كان عمله نافعاً للمسلمين على وجه يصعب على غيره أن ينفعهم به كنفعه لهان الأمر لكنك تجد من يتمسك بعمل إداري محض يقوم به آحاد الناس ولا يتطلب موهبة كموهبته التي رزقه الله إياها.
حكمــــــة
بعض الموهوبين ممن عمل طويلاً حتى استحق التقاعد المبكر، إذا قيل له: تقاعد واعمل في مجال آخر يناسب موهبتك، سأل عن المال، فإذا بُيِّن له أن العمل الخيري سيتقاضى عليه أجراً يكمل له نقص راتبه بسبب التقاعد احتج بالأمن الوظيفي – أي أن العمل الخيري قد يُخرج منه في أي وقت – فسبحان الله كم يضيع على الناس من الأجور بسبب هذا التردد والضعف في اتخاذ القرار، أو قل بسبب تسويل الشيطان لهم ووسوسته في نفوسهم.
حكمــــــة
لا بد لكل صاحب تفكير في إحداث أثر عظيم في الناس أن يكون عمله مساعداً له على هذا كأن يكون يعمل في عمل خيري أو تربوي أو اجتماعي، أو على الأقل أن يكون عمله خفيفاً لا يستغرق منه وقتاً طويلاً، أو أن يستطيع أن ينجز في أثناء العمل شيئاً من الخطوات الموصلة إلى هدفه لكن تصور أن موظفاً صاحب إدراية يستقبل الجمهور فيها منذ بدئه العمل إلى نهايته لا يكاد يستطيع أن يتفرّغ ولو عشر دقائق لنفسه، بالله عليكم هل سينجز هذا شيئاً ذا بال؟! وهل سيترك الأثر العظيم المطلوب؟! أنا أشك كثيراً في استطاعته عمل شيء إلا أن يغير عمله هذا إلى عمل آخر، والله أعلم.
حكمــــــة
كل عظماء التاريخ من مرسَلين وأنبياء ومؤثرين وفاعلين كان لهم من أوقاتهم قدر عظيم خاص بهم لا ينازعهم فيه غيرهم من الناس، وهم أضن بوقتهم من الأم برضيعها، لكن هذا لا يفهمه أكثر أصحاب المواهب اليوم الذين يظن فيهم أنهم يستطيعون عمل شيء عظيم في دنيا الناس. ولذلك تجد أن مدرّس الجامعة الموهوب المربي الذي يحتك بطلابه ويوجههم ويرشدهم ويكون له فيهم أثر غير قليل يفرح إذا حُوِّل إلى رئيس قسم أو عميد، وحقه أن يُعزِّى.