فوائد من كتاب ذم الدنيا
عن أبي أمامة الباهلي قال : لما بعث محمد صلى الله عليه و سلم أتت إبليس جنوده وقالوا : قد بعث نبي وأخرجت أمته قال : يحبون الدنيا ؟ قالوا : نعم قال : لئن كانوا يحبونها ما أبالي أن لا يعبدوا الأوثان وأنا أغدو عليهم وأروح بثلاث : أخذ المال من غير حقه وإنفاقه في غير حقه وإمساكه عن حقه والشر كله لهذا تبع .
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : والله ما الدنيا في الآخرة إلا كنفجة أرنب . قال أبو الدرداء : لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى فرعون منها شربة ماء
قال ابن مسعود : الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له ولها يجمع من لا عقل له . عن يونس بن عبيد قال : ما شبهت الدنيا إلا كرجل نائم فرأى في منامه ما يكره وما يحب فبينما هو كذلك إذ انتبه
قال رجل لعلي بن أبي طالب : يا أمير المؤمنين صف لنا الدنيا ؟ قال : وما أصف لك من دار من صح فيها أمن ومن سقم فيها ندم ومن افتقر فيها حزن ومن استغنى فيها فتن من حلالها حساب ومن حرامها النار .
كان الحسن بن علي يتمثل ويروى أنه من قوله : ( يا أهل لذات دنيا لا بقاء لها ... إن اغترارا بظل زائل حمق ) مر قوم بواد فسمعوا هاتفا يقول : ( وإن امرءا دنياه أكبر همه ... لمستمسك منها بحبل غرور )
نزل أعرابي بقوم فقدموا له طعاما فأكل ثم قام إلى ظل خيمة لهم فنام هناك فاقتلعوا الخيمة فأصابته الشمس فانتبه وقام وهو يقول : ( ألا إنها الدنيا كظل بنيته ... ولا بد يوما أن ظلك زائل )
عن ليث : أن عيسى ابن مريم رأى الدنيا في صورة عجوز هتماء عليها من كل زينة فقال لها : كم تزوجت ؟ قالت : لا أحصيهم قال : كلهم مات عنك أو كلهم طلقك ؟ قالت : بل كلهم قتلت قال : فقال عيسى عليه السلام : بؤسا لأزواجك الباقين ألا يعتبرون بأزواجك الماضين كيف تهلكينهم واحدا واحدا ولا يكونون منك على حذر .
عن أبي العلاء قال : رأيت في النوم عجوزا كبيرة متغضنة الجلد ينظرون إليها فجئت فنظرت فعجبت من نظرهم إليها وإقبالهم عليها فقلت لها : ويلك من أنت ؟ قالت : أو ما تعرفني ؟ قلت : لا ما أدري من أنت ؟ قالت : فإني أنا الدنيا قال : قلت : أعوذ بالله من شرك قالت : فإن أحببت أن تعاذ من شري فابغض الدرهم .
قال أبو بكر بن عياش : رأيت في النوم عجوزا شمطاء مشوهة تصفق بيديها وخلفها خلق يتبعونها ويصفقون ويرقصون فلما كانت بحذائي أقبلت علي فقالت : لو ظفرت بك صنعت بك ما صنعت بهؤلاء قال : ثم بكى أبو بكر وقال : رأيت هذا قبل أن أقدم إلى بغداد
عن شهر بن حوشب قال : قال عيسى بن مريم : لا تتخذوا الدنيا ربا فتتخذكم الدنيا عبيدا أكنزوا كنزكم عند من لا يضيعه فإن صاحب كنز الدنيا يخاف عليه الآفة وإن صاحب كنز الله لا يخاف عليه الآفة
عن بعض العلماء قال : قال عيسى بن مريم عليه السلام : يا معشر الحواريين إني قد كببت لكم الدنيا على وجهها فلا تنعشوها بعدي فإن من خبث الدنيا أن الله عصي فيها وإن من خبث الدنيا أن الآخرة لا تدرك إلا بتركها ألا فاعبروا الدنيا ولا تعمروها
عن إبراهيم بن الأشعث قال : سمعت الفضيل بن عياض و ابن عيينة يقولان : قال عيسى بن مريم عليه السلام بطحت لكم الدنيا وجلستم على ظهرها فلا ينازعكم فيها إلا الملوك والنساء فأما الملوك فلا تنازعوهم الدنيا فإنهم لن يعرضوا لكم ما تركتموهم ودنياهم وأما النساء فاتقوهن بالصوم والصلاة .
عن شعيب بن صالح قال : قال عيسى بن مريم عليه السلام : ما سكنت الدنيا في قلب عبد إلا وأليط قلبه منها بثلاث : شغل لا ينفك عناؤه وفقر لا يدرك غناه وأمل لا يدرك منتهاه الدنيا طالبة ومطلوبة فطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى يستكمل فيها رزقه وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يجيء الموت فيأخذه بعنقه .
عن الحسن قال : أربع من أعلام الشقاء : قسوة القلب وجمود العين وطول الأمل والحرص على الدنيا .
قال معاذ بن جبل : يا معشر القراء كيف بدنيا تقطع رقابكم ؟ ! ! فمن جعل الله غناه في قلبه فقد أفلح ومن لا فليست بنافعته دنياه . قال مالك بن دينار : اتقوا السحارة فإنها تسحر قلوب العلماء يعني : الدنيا .
عن أبي جعفر الخطمي قال : كان لجدي مولى يقال له زياد يعلم بنيه فنعس الشيخ فجعل زياد يذكر لهم الدنيا والشيخ يسمع فقال الشيخ : يا زياد ضربت على بني قبة الشيطان اكشطوها بذكر الله عز و جل .
قال الحسن : والله ما أحد من الناس بسط له الدنيا فلم يخف أن يكون قد مكر به فيها إلا كان قد نقص عقله وعجز رأيه وما أمسك الله عن عبد الدنيا فلم يظن أنه قد خير له فيها إلا كان قد نقص عقله وعجز رأيه .
عن الحسن مثله ثم قرأ هاتين الآيتين : { فلما نسوا ما ذكروا به } إلى قوله : { والحمد لله رب العالمين } [ الأنعام 44 45 ] وقال الحسن : مكر بالقوم ورب الكعبة وأعطوا حاجاتهم ثم أخذوا .
عن الأوزاعي قال سمعت بلال بن سعد يقول : والله لكفى به ذنبا أن الله عز و جل يزهدنا في الدنيا ونحن نرغب فيها فزاهدكم راغب ومجتهدكم مقصر وعالمكم جاهل
قال أبو عمران الجوني : مر سليمان بن داود في موكبه والطير تظله والجن والإنس عن يمينه وعن يساره قال : فمر بعابد من عباد بني إسرائيل فقال : يا ابن داود لقد آتاك الله ملكا عظيما قال : فسمع سليمان كلمته فقال : لتسبيحة في صحيفة مؤمن خير مما أعطي ابن داود فما أعطي لابن داود يذهب والتسبيحة تبقى .
عن يحيى بن أبي كثير أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يقول في خطبته : أين الوضاء الحسنة وجوههم المعجبون بشبابهم ؟ أين الملوك الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحيطان ؟ أين الذين كانوا يعطون الغلبة في مواطن الحرب ؟ قد تضعضع بهم الدهر فأصبحوا في ظلمات القبور الوحا الوحا النجاة النجاة .
كان حذيفة يقول : ما من صباح ولا مساء إلا ومناد ينادي : يا أيها الناس الرحيل الرحيل وإن تصديق ذلك في كتاب الله عز و جل {إنها لإحدى الكبر * نذيرا للبشر * لمن شاء منكم أن يتقدم } قال : في الموت { أو يتأخر } [ المدثر : 35 ، 37 ] قال : في الموت .
عن سحيم مولى بني تميم قال : جلست إلى عامر بن عبد الله وهو يصلي فجوز في صلاته ثم أقبل علي فقال : أرحني بحاجتك قال : قمت عنه وقام إلى صلاته .
مرض داود الطائي فسأله رجل عن حديث قال : دعني فإني إنما أبادر بخروج نفسي . قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : التؤدة في كل شيء خير إلا في أمر الآخرة .
قال أبو معاوية الأسود يقول : إن كنت أبا معاوية تريد لنفسك الجزيل فلا تنم من الليل ولا تغفل قدم صالح الأعمال ودع عنك كثرة الأشغال بادر قبل نزول ما تحاذر ولا تهتم بأرزاق من تخلف فلست أرزاقهم تكلف .
عن الحسن قال : يتوسد المؤمن بما قدم من عمله في قبره إن خيرا فخير وإن شرا فشر فاجتنبوا المبادرة رحمكم الله في المهلة .
عن عبد الواحد بن صفوان قال : كنا مع الحسن في جنازة فقال : رحم الله امرءا عمل لمثل هذا اليوم إنكم اليوم تقدرون على ما لا يقدر عليه إخوانكم هؤلاء من أهل القبور فاغتنموا الصحة والفراغ قبل يوم الفزع والحساب .معناه لا تقعدوا على الدنيا .
عن جعفر بن سليمان قال : سمعت حبيبا أبا محمد يقول : لا تقعدوا فراغا فإن الموت يطلبكم . عن يزيد الأعرج الشني أنه كان يقول لأصحابه كثيرا : بحسبكم بقاء الآخرة من فناء الدنيا .
عن محمد بن بشر بن عبد الله النهشلي قال : دخلنا على أبي بكر النهشلي وهو في الموت وهو يومئ برأسه يرفعه ويضعه وكأنه يصلي فقال له بعض أصحابه : في مثل هذه الحالة رحمك الله قال : إنني أبادر طي الصحيفة .
قال سفيان الثوري : كان يقال : إنما سميت الدنيا لأنها دنية وإنما سمي المال لأنه يميل بأهله . قال وهب بن منبه : قرأت في بعض الكتب : الدنيا غنيمة الأكياس وغفلة الجهال لم يعرفوها حتى أخرجوا منها فسألوا الرجعة فلم يرجعوا .
عن الحسن قال : بينما رجلان من صدر هذه الأمة يتراجعان بينهما أمر الناس فقال أحدهما لصاحبه : لا أبا لك أما ترى الناس وقد أتى ما أهلكهم عن هذا الأمر بعدما زعموا أن قد آمنوا ؟ قال : جعل يقول : ضعف الناس الذنوب والشيطان قال : وجعل يعرض بأمور لا توافق الرجل في نفسه فلما رأى ذلك قال : بل خرجوا عن هذا الأمر بعدما زعموا أن قد آمنوا إن الله عز و جل أشهر الدنيا وغيب الآخرة فاخذ الناس بالشاهد وتركوا الغائب والذي نفس عبد الله بن قيس بيده لو أن الله قرن إحداهما إلى جانب الأخرى حتى يعاينها الناس ما عدلوا ولا امتثلوا .
عن الحسن في قوله : { لقد خلقنا الإنسان في كبد } [ البلد : 4 ] قال الحسن : لا أعلم خليقة يكابد من هذا الأمر ما يكابد هذا الإنسان قال : وقال سعيد أخوه : يكابد مضايق الدنيا وشدائد الآخرة .
كان بشير بن كعب كثيرا ما يقول : انطلقوا حتى أريكم الدنيا قال : فجيئ بهم إلى الشرق وهي يومئذ مزبلة فيقول : انظروا إلى دجاجهم وبطهم وثمارهم .
عن وهب بن منبه قال : بينما ركب يسيرون إذ هتف بهم هاتف : ( ألا إنما الدنيا مقيل للرائح ... قضى وطرا من حاجة ثم هجرا ) ( ألا لا ولا يدري علام قدومه ... ألا كلما قدمت تلفى مؤخرا )
عن عثمان بن عطاء عن أبيه : { إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار } [ ص : 46 ] قال : أخلصناهم بذكر الآخرة .
عن جابر بن عون الأسدي قال : أول كلام تكلم به سليمان بن عبد الملك أن قال : الحمد لله الذي ما شاء صنع وما شاء رفع وما شاء وضع ومن شاء أعطى ومن شاء منع إن الدنيا دار غرور ومنزل باطل وزينة تتقلب تضحك باكيا وتبكي ضاحكا وتخيف آمنا وتؤمن خائفا وتفقر مثريها وتثري فقيرها ميالة لاعبة بأهلها يا عباد الله اتخذوا كتاب الله إماما وارضوا به واجعلوه لكم قائدا فإنه ناسخ لما قبله ولن ينسخه كتاب بعده اعلموا عباد الله إن هذا القرآن يجلو كيد الشيطان وضغائنه كما يجلو ضوء الصبح إذا تنفس إدبار الليل إذا عسعس .
عن عبد الرحمن بن يزيد قال : قال عبد الله : أنتم أكثر صلاة وأكثر صياما وأكثر جهادا من أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم وهم كانوا خيرا منكم قالوا : فيم ذاك يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : كانوا أزهد منكم في الدنيا وأرغب في الآخرة .
قالت امرأة من قريش كانت تسكن البحرين : لو رأت أعين الزاهدين ثواب ما أعد الله لأهل الإعراض عن الدنيا لذابت أنفسهم شوقا واشتياقا إلى الموت لينالوا من ذلك ما أملوا من فضله تبارك وتعالى .
قال لقمان لابنه : يا بني إنك إن استدبرت الدنيا منذ يوم نزلتها واستقبلت الآخرة فأنت إلى دار تقرب منها أقرب منك إلى دار تباعد عنها .
كتب علي بن أبي طالب إلى سلمان الفارسي : أما بعد فإنما الدنيا مثل الحية لمن لمسها يقتل بسمها فأعرض عما يعجبك فيها لقلة ما يصحبك منها وضع همومها لما أيقنت به من فراقها وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها فإن صاحبها كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصه عنه مكروه والسلام .
عن مالك بن دينار قال : قال لي عبد الله الرازي : إن سرك أن تجد حلاوة العبادة وتبلغ ذروة سنامها فاجعل بينك وبين شهوات الدنيا حائطا من حديد .
قال سفيان قال عيسى بن مريم : كما لا يستقيم النار والماء في إناء كذلك لا يستقيم حب الآخرة والدنيا في قلب المؤمن .
عن سهل أبي الأسد قال : كان يقال : مثل الذي يريد أن يجمع له الآخرة والدنيا مثل عبد له ربان لا يدري أيهما رضي . كتب إلي سعيد بن أبي بدرة قال أبو موسى : إنه لم يبق من الدنيا إلا فتنة منتظرة وكل محزن .
عن الحسن أنه كان يقول : من أحب الدنيا وسرته ذهب خوف الآخرة من قلبه وما من عبد يزداد علما ويزداد على الدنيا حرصا إلا ازداد إلى الله عز و جل بغضا وازداد من الله بعدا .
عن ميمون بن مهران قال : الدنيا كلها قليل وقد ذهب أكثر القليل وبقي قليل من القليل . قال عمر بن الخطاب : لا يغرنك أن يجعل لك كثيرا ما تحب من أمر دنياك إذا كنت ذا رغبة في أمر آخرتك .
قال أنس بن ينعم - وكان من عباد أهل الشام - : بؤسا لمحب الدنيا أتحب ما أبغض الله عز و جل ؟ ! !
قال لقمان لابنه : يا بني إن الدنيا بحر عميق يغرق فيه ناس كثير فلتكن سفينتك فيها تقوى الله وحشوها الإيمان بالله وشراعها التوكل على الله لعلك تنجو وما أراك بناج .
عن وهب بن منبه قال : قال عيسى : بحق أقول لكم كما ينظر المريض إلى طيب الطعام فلا يلتذ به من شدة الوجع كذلك صاحب الدنيا لا يلتذ العبادة ولا يجد حلاوتها مع ما يجد من حب الدنيا وبحق أقول لكم إن الدابة إذا لم تركب وتمتهن تصعبت وتغير خلقها كذلك القلوب إذا لم ترقق بذكر الموت وتنصبها دأب العبادة تقسو وتغلظ بحق أقول لكم إن الزق ما لم بنخرق أو يقحل فسوف يكون وعاء للعسل وكذلك القلوب ما لم تحرقها الشهوات أو يدنسها الطمع أو يقسيها النعيم فسوف تكون أوعية للحكمة .
عن عبيد الله بن مسلم قال : بلغني أن عيسى بن مريم عليه السلام قال : ويل لصاحب الدنيا كيف يموت ويتركها ويأمنها وتغره ويثق بها وتخذله ويل للمغترين كيف أرتهم ما يكرهون وفارقهم ما يحبون وجاءهم ما يوعدون وويل لمن الدنيا همه والخطايا عمله كيف يفتضح غدا بذنبه .
عن عبادة أبو مروان قال : أوحى الله إلى موسى : يا موسى ما لك ولدار الظالمين إنها ليست لك بدار أخرج منها همك وفارقها بعقلك فبئست الدار هي إلا لعامل يعمل فيها فنعمت الدار هي يا موسى إني مرصد للظالم حتى آخذ منه للمظلوم .
قال أبو محرز الطفاوي : كلف الناس بالدنيا ولن ينالوا منها فوق قسمتهم وأعرضوا عن الآخرة وببغيتها يرجو العباد نجاة أنفسهم قال : قال أبو محرز : لما بان للأكياس أعلى الدارين منزلة طلبوا العلو بالعلو من الأعمال وعلموا أن الشيء لا يدرك بأكثر منه فبذلوا أكثر ما عندهم بذلوا والله المهج رجاء الراحة لديه والفرج في يوم لا يخيب فيه له طالب .
عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر قال : كان مسروق يركب بغلته كل جمعة ويحملني خلفه فأتى كناسة بالحيرة قديمة فحمل عليها بغلته ويقول الدنيا تحتنا .
قال سعد بن مسعود التجيبي : إذا رأيت العبد دنياه تزداد وآخرته تنقص مقيما على ذلك راضيا به فذلك المغبون الذي يلعب بوجهه وهو لا يشعر .
عن وهيب قال : قال عيسى عليه السلام : أربع لا يجتمعن في أحد من الناس إلا تعجب : الصمت وهو أول العبادة والتواضع لله عز و جل والزهادة في الدنيا وقلة الشيء .
عن الحسن قال : خطب عتبة بن غزوان الناس بالبصرة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا أيها الناس إن هذه الدنيا قد آذنت بصرم وولت حذاء ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء وإنكم مفارقوها لا محالة فانتقلوا منها بخير ما بحضرتكم والذي نفسي بيده ما كانت قبلك نبوة إلا تناسخت حتى يكون آخرها ملكا وستبلون الأمراء بعدنا .
عن يزيد بن أبي حبيب : أن علي بن رباح أخبره أنه سمع عمرو بن العاص يقول على المنبر : والله ما رأيت قوما قط أرغب فيما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يزهد فيه منكم يرغبون في الدنيا وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يزهد فيها والله ما مر رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاث من الدهر إلا والذي عليه أكثر من الذي له .
عن عبد الله بن عمور قال : الدنيا جنة الكافر وسجن المؤمن وإنما مثل المؤمن حين تخرج نفسه كمثل رجل كان في سجن فأخرج فجعل يتقلب في الأرض ويتفسح فيها .
عن الحسن : أنه كان إذا تلى هذه الآية : { فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور } [ لقمان : 33 ] قال : من قال ذا ؟ من خلقها ؟ ومن هو أعلم بها قال : وقال الحسن : إياكم وما شغل من الدنيا فإن الدنيا كثيرة الأشغال لا يفتح رجل على نفسه باب شغل إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب .
عن الحسن قال : المؤمن من يعلم أن ما قال الله عز و جل كما قال والمؤمن أحسن الناس عملا وأشد الناس خوفا لو أنفق جبلا من مال ما أمن دون أن يعاين لا يزداد صلاحا وبرا وعبادة إلا ازداد فرقا يقول : لا أنجو والمنافق يقول : سواد الناس كثير وسيغفر لي ولا بأس علي يسيء في العمل ويتمنى على الله عز و جل .
عن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أخ له : يا أخي إنك قد قطعت عظيم السفر وبقي أقله فاذكر يا أخي المصادر والموارد فقد أوحي إلى نبيك محمد صلى الله عليه و سلم في القرآن أنك من أهل الورود ولم يخبرك أنك من أهل الصدر والخروج وإياك أن تغرك الدنيا فإن الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له أي أخي إن أجلك قد دنا فكن وصي نفسك ولا تجعل الرجال أوصياءك .
عن ابن عباس قال : إن الله عز و جل ناجى موسى فقال : يا موسى إنه لم يتصنع لي المتصنعون بمثل الزهد في الدنيا ولم يتقرب لي المتقربون بمثل الورع عما حرمت عليهم .
قال أبو العباس الكندي : أهديت إلى صديق لي سكرا فكتب إلي : لا تعد ودع الإخاء على حاله حتى نلتقي وليس في القلوب شيء ثم كتب في أسفل كتابه : ما طالب الدنيا من حلالها وجميلها وحسنها عند الله بالمحمود ولا بالمغبوط فكيف يطلبها من أيدي المخلوقين من قذرها ونكدها بالعسار والمنقصة .
عن وهب بن منبه قال : مثل الدنيا والآخرة كمثل رجل له ضرتان إن أرضى إحداهما أسخط الأخرى . عن سيار أبي الحكم قال : الدنيا والآخرة يجتمعان في قلب العبد فأيهما غلب كان الآخر تبعا له .
قال أبو سليمان : إذا كانت الآخرة في القلب جاءت الدنيا تزحمها وإذا كانت الدنيا في القلب لم تزحمها الآخرة لأن الآخرة كريمة والدنيا لئيمة .
قال مالك بن دينار : بقدر ما تحزن للدينا فكذلك يخرج هم الآخرة من قلبك وبقدر ما تحزن للآخرة فكذلك يخرج هم الدنيا من قلبك .
قال ابن عباس : يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوز شمطاء زرقاء أنيابها بادية مشوهة خلقها فتشرف على الخلائق فيقال : أتعرفون هذه ؟ فيقولون : نعوذ بالله من معرفة هذه فقال : هذه الدنيا التي تناحرتم عليها بها تقاطعتم الأرحام وبها تحاسدتم وتباغضتم واغتررتم ثم تقذف في جهنم فتنادي أي رب أين أتباعي وأشياعي ؟ فيقول الله عز و جل : ألحقوا بها أتباعها وأشياعها .
عن الفضيل قال : بلغني أن رجلا عرج بروحه قال : فإذا بامرأة على قارعة الطريق عليها من كل زينة الحلى والثياب وإذا هي لا يمر بها أحد إلا جرحته وإذا هي أدبرت كانت أحسن شيء رآه الناس وإذا أقبلت كانت أقبح شيء رآه الناس عجوز شمطاء زرقاء عمشاء قال : فقلت : أعوذ بالله منك قالت : لا والله لا يعيذك الله حتى تبغض الدرهم قلت : من أنت ؟ قالت : أما تعرفني ؟ قلت : لا قالت : أنا الدنيا .
قال الفضيل : يجاء بالدنيا يوم القيامة تتبختر في زينتها ونضرتها فتقول : يا رب اجعلني لأحسن عبادك دارا فيقول : لا أرضاك له أنت لا شيء فكوني هباء منثورا فتكون هباء منثورا .
قال ابن عيينة : حدثت عن عبد الواحد أنه كان يقول : ما الدنيا إن كنت لبائعها في بعض الحالات كلها بشربة على الظمأ .
عن إبراهيم قال : سمعت الفضيل يقول : قيل : يا ابن آدم إجعل الدنيا دارا تبلغك لأثقالك واجعل نزولك فيها استراحتك لا يحسبك كالهارب من عدوك المستريح إلى أهله في طريق مخوفة لا يجد مسالما يقدم فيه من الراحة فتبدلت في سفره يستبقي صالح متاعه لإقامته فإن عجزت أن تكون كذلك في العمل فليكن ذلك هو الأصل وإياك أن تكون لصا من لصوص تلك الطريق ممن ينهون عنه وينأون عنه وإن آية العمى إذا أردت أن تعرف بذلك نفسك أو غيرك فإنها لا تقف عن الهلكة ولا تمض في الغربة فذلك أعمى القلب وإن كان بصيرا .
عن أشعث بن إسحاق القمي قال : قال عيسى بن مريم : لا تطلبوا الدنيا بهلكة أنفسكم أطلبوا الدني بترك ما فيها عراة دخلتموها وعراة تخرجون منها هي اليوم همه وغدا راحل يشغله .
عن أشعث بن إسحاق قال : قيل لعيسى بن مريم عليه السلام : لو اتخذت بيتا ؟ قال : يكفيني خلقان من كان قبلنا . قال عمر بن الخطاب : الزهد في الدنيا راحة القلب والبدن .
عن ثابت البناني قال : قيل لعيسى عليه السلام : لو اتخذت حمارا تركبه لحاجتك قال : أنا أكرم على الله من أن يجعل لي شيئا يشغلني به .
قال مالك بن دينار : بقدر ما تفرح للدنيا كذلك تخرج حلاوة الآخرة من قلبك . قال بعض الحكماء : أما يكفي أهل الدنيا ما يعانون من كثرة الفجائع وتتابع المصائب في المال والأخوان والنقص في القوى والأبدان .
قال مالك بن دينار : قال عيسى عليه السلام للحواريين : يا معشر الحواريين كلوا خبز الشعير والماء القراح ونبات الأرض فإنكم لا تقومون بشكره واعلموا أن حلاوة الدنيا مرارة الآخرة .
عن سفيان بن عيينة قال : والله ما أعطى الله عز و جل الدنيا من أعطاها إياه إلا اختبارا ولا زواها من زواها عنه إلا اختبارا وآية ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جاع وشبعتم ابن آدم تهيأ للجدل وتيسر لحسابك وانظر من موقفك على من يسألك عن النقير والقطمير والفتيل وما هو أصغر من ذلك وأكبر وما تغني حياة بعدها الموت قال : فقيل له : يا أبا محمد من يقول هذا ؟ قال : ومن يحسن يقول هذا إلا الحسن .
عن فضيل بن عياض قال : خمسة من علامات الشقاء : قسوة القلب وجمود العين وقلة الخيار والرغبة في الدنيا وطول الأمل وخمسة من السعادة : اليقين في القلب والورع في الدين والزهد في الدنيا والحياء والعلم .
عن بدر بن عثمان عن عمه قال : آخر خطبة خطبها عثمان في جماعة : إن الله إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة ولم يعطكموها لتركنوا إليها إن الدنيا تفنى والآخرة تبقى لا تبطرنكم الفانية ولا تشغلنكم عن الباقية آثروا ما يبقى على ما يفنى فإن الدنيا منقطعة وإن المصير إلى الله عز و جل واتقوا الله فإن تقواه جنة من بأسه ووسيلة عنده واحذروا أمر الله والزموا جماعتكم ولا تصيروا أحزابا { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء } إلى آخر الآيتين [ آل عمران : 103 ] .
قال عبد الواحد بن زيد : يا ويح من يطلبون الدنيا ! أما يستحيون من طلب الدنيا وقد ضمن لهم الرزق فكفى الراغب منهم الطلب وأمروا بالطاعة فهم يطلبون منها ما إن فاتهم سلموا وإن وجدوه ندموا وهل الخير إلا خير الآخرة الخير في الدنيا معدوم والخفض فيها مذموم والمقصر فيها عن حظه ملوم .
قال عبد الواحد بن زيد : بالله لحرص المرء على الدنيا أخوف عليه عندي من أعدى أعدائه له قال : وسمعته يقول : يا إخواتاه لا تغبطوا حريصا على ثروة ولا سعة في مكسب ولا مال وانظروا إليه بعين المقت له في فعله وبعين الرحمة له في اشتغاله اليوم بما يرد به غدا في المعاد قال : ثم يبكي ويقول : الحرص حرصان : فحرص فاجع وحرص نافع فأما النافع فحرص المرء على طاعة الله وأما الفاجع فحرص المرء على الدنيا متعذب مشغول لا يسر ولا يلذ بجمعه لشغله ولا يفرغ من محبته الدنيا لآخرته كدا كدا لما يفنى وغفلته عما يدوم ويبقى قال : ثم يبكي .
قال الفضل بن ثور بن شقيق بن ثور وكان تهمه نفسه قلت للحسن : يا أبا سعيد رجلان طلبا أحدهما الدنيا فأصابها فوصل فيها رحمه وقدم فيها لنفسه وجانب الآخر الدنيا ؟ فقال : أحبهما إلي الذي جانب الدنيا فأعاد عليه فأعدا عليه مثله .
قال أبو هاني الخولاني أنه سمع عمرو بن حريث وغيره يقولون : إنما نزلت هذه الآية في أصحاب الصفة { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض } [ الشورى : 27 ] وذلك أنهم قالوا : لو أن لنا فتمنوا الدنيا .
عن يزيد بن ميسرة الحمصي وكان قد قرأ الكتب قال : أجد فيما أنزل أيحزن عبدي أن أقبض عنه الدنيا وذلك أقرب له مني أو يفرح عبدي أن أبسط له الدنيا وذلك أبعد له مني ثم قرأ : { أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون } [ المؤمنون : 55 56 ] .
عن عطاء بن السائب قال : قال أبو عبد الرحمن السلمي : نزلنا وبيننا وبين المدائن فرسخ فأخذ أبي بيدي فذهب بي إلى الجمعة فإذا حذيفة يخطب فقال : ألا إن الساعة قد اقتربت وإن القمر قد انشق وإن الدنيا قد آذنت بفراق وإن المضمار اليوم وغدا السباق فقلت : يا أبتاه غدا يستبق الناس ؟ فقال : يا بني ما أجهلك إنما يعني العمل فلما كانت الجمعة الثانية قال : مثلها وإن الغاية النار والسابق من سبق إلى الجنة .