ثانيا : في موكب مفاتيح الخير
ثانيا : في موكب مفاتيح الخير
مفاتيح الخير - بدر عبدالحميد هميسه
قال عبد اللّه بن القاسم كاتب العباس بن أحمد بن طولون: بعـث إلي أحمد بن طولون بعد أن مضى من الليل نصفـُه، فوافيتـُه وأنا منه خائف مذعور. ودخل الحاجب بين يدي وأنا في أثـره، حتـى أدخلني إلى بيت مظلم، فقال لي: سلـِّم على الأمير ! فـسلـَّمت. فقال لي ابن طولون من داخل البيت وهو في الظـلام: لأي شـيء يصلح هذا البيت؟ قل ت: للفكر. قال: ولم؟ قلت: لأنه ليس فيـه شيء يشغل الطرف بالنظر فيه. قال: أحسنت ! امض إلـى ابنـي العباس، فقل له: يقول لك الأمير اغد علي. وامنعه من أن يأكل شيئًا من الطعام إلى أن يجيئني فيأكل معي. فقلت: السمع والطاعـة. وانصرفت، وفعلتُ ما أمرني به، ومنعته من أن يأكل شيئًا. وكـان العباس قليل الصبر على الجوع، فرام أن يأكل شيئًا يسيرا قبل ذهابه
إلى أبيه، فمنعته. فركب إليه، وجلس بين يديه. وأطال أحمـد بـن طولون عمدا، حتى علم أن العباس قد اشتد جوعه. وأُحضرت مائدة ليس عليها إلا البوارد من البقول المطبوخة، فانهمك العبـاس فـي أكلها لشدة جوعه، حتى شبع من ذلك الطعام، وأبوه متوقـف عـن
الانبساط في الأكل. فلما علم بأنه قد امتلأ من ذلك الطعام، أمـرهم بنقل المائدة، وأُحضر كل لون طيـّب من الدجاج والـبط والجـدي والخروف، فانبسط أبوه في جميع ذلك فأكل، وأقبل يضع بين يـدي ابنه منه، فلا يمكنه الأكل لشبعه. قال له أبوه: إنني أردت تأديبـك في يومك هذا بما امتحنتك به. لا تـُلق بهمـَّتك على صغار الأمور بأن تسهـِّل على نفسك تناول يسيرها فيمنعك ذلك من كبارهـا، ولا تشتغل بما يقلّ قدره فلا يكون فيك فضلٌ لما يعظم قدره.