بابُ ما يقولُه من أَيِسَ من حَياتِه
ذكـــــر
روينا في كتاب الترمذي وسنن ابن ماجه، عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: رأيتُ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو بالموت وعنده قدحٌ فيه ماء، وهو يُدْخِلُ يدَه في القدح ثم يمسحُ وجهَه بالماء، ثم يقولُ: " اللَّهُمَّ أعِنِّي على غَمَرَاتِ المَوْتِ وَسَكَرَاتِ المَوْتِ " .، و " غمرات الموت " : شدائده. و " سكرات الموت " : جمع سَكْرة، وهي شدّته التي تُفقد الوعي.)
وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: سمعتُ النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم وهو مستندٌ إليّ يقول: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي وَارْحَمْنِي وألحِقْني بالرَّفِيقِ الأعْلَى " .
ويستحبّ أن يكثرَ من القرآن والأذكار، ويُكره له الجزع وسوء الخلق، والشتم، والمخاصمة، والمنازعة في غير الأمور الدينية، ويُستحبّ أن يكونَ شاكراً للّه تعالى بقلبه ولسانه، ويستحضر في ذهنه أن هذا آخرُ أوقاتِه من الدنيا فيجتهدُ على ختمها بخير، ويبادر إلى أداء الحقوق إلى أهلها، من ردّ المظالم والودائع والعواري، واستحلال أهله: من زوجته، ووالديه، وأولاده، وغلمانه، وجيرانه، وأصدقائه، وكل من كانت بينه وبينه معاملة أو مصاحبة، أو تعلّق في شيء. وينبغي أن يوصيَ بأمورِ أولادِه إن لم يكن لهم جدٌّ يَصلحُ للولاية، ويُوصي بما لا يتمكن من فعله في الحال: من قضاء بعض الديون ونحو ذلك. وأن يكون حسنَ الظنّ باللّه سبحانه وتعالى أنه يرحمَه، ويستحضر في ذهنه أنه حقير في مخلوقات اللّه تعالى، وأن اللّه تعالى غنّي عن عذابه وعن طاعته، وأنه عبدُه، ولا يطلبُ العفوَ والإِحسان والصفح والامتنان إلا منه. ويستحبّ أن يكون مُتعاهداً نفسه بقراءة آياتٍ من القرآن العزيز في الرجاء، ويقرؤُها بصوت رقيق، أو يقرؤُها له غيره وهو يستمع. وكذلك يستقرىءُ أحاديثَ الرجال وحكاياتِ الصالحين وآثارَهم عند الموت. وأن يكونَ خيرُه مُتزايداً، ويحافظ على الصلوات، واجتناب النجاسات، وغير ذلك من وظائف الدين، ويصبر على مشقة ذلك؛ وليحذرْ من التساهل في ذلك، فإن من أقبح القبائح أن يكونَ آخِرُ عهده من الدنيا التي هي مزرعة الآخرة التفريط فيما وجب عليه أو ندب إليه. وينبغي له أن لا يقبل قول من يخذله عن شيء مما ذكرناه، فإن هذا مما يُبتلى به، وفاعل ذلك هو الصديق الجاهل العدوّ الخفيّ فلا يقبل تخذيله، وليجتهد في ختم عمره بأكمل الأحوال. ويستحبّ أن يوصي أهله وأصحابه بالصبر عليه في مرضه، واحتمال ما يصدر منه، ويوصيهم أيضاً بالصبر على مصيبتهم به، ويجتهد في وصيتهم بترك البكاء عليه، ويقول لهم: صحَّ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: " المَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكاءِ أهْلِهِ عَلَيْهِ "
ودلائل ما ذكرته في هذا الباب معروفة مشهورة حذفتها اختصاراً فإنها تحتمل كراريس. وإذا حضره النزعُ فليكثرْ من قول: لا إِلهَ إِلاَّ اللّه. لتكون آخرَ كلامِه.
فقد روينا في الحديث المشهور في سنن أبي داود وغيره، عن معاذ بن جبل رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: " مَنْ كَان آخِرَ كَلامِه لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ دَخَلَ الجَنَّةَ " قال الحاكم أبو عبد اللّه في كتابه المستدرك على الصحيحين: هذا حديث صحيح الإِسناد.
وروينا في صحيح مسلم وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وغيرهما، عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: " لَقِّنُوا مَوْتاكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللّه " قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ورويناه في صحيح مسلم أيضاً من رواية أبي هريرة رضي اللّه عنه، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
قال العلماء: فإن لم يقل هو " لا إِله إِلاَّ اللّه " لقَّنه مَنْ حضرَه، ويلقنه برفق مخافةَ أن يضجرَ فيردّها ، وإذا قالها مرّة لا يُعيدها عليه إلا أن يتكلم بكلام آخر. قال أصحابنا: ويستحبّ أن يكون الملقن غير وارثٍ متّهم، لئلا يُحْرِجَ الميتَ ويتَّهمه.
واعلم أن جماعة من أصحابنا قالوا: نُلَقِّنُ ونقولُ
لا إِله إلاَّ اللّه محمد رسول اللّه، واقتصر الجمهور على قول لا إِله إِلاَّ اللّه، وقد بسطتُ ذلك بدلائله وبيان قائليه في كتاب الجنائز من شرح المهذّب.
فائدة:
قال القرطبي " صاحب كتاب المفهم شرح صحيح مسلم " : في تشديد الموت على الأنبياء فائدتان: إحداهما: تكميل فضائلهم ورفع درجاتهم وليس ذلك نقصاً ولا عذاباً، بل هو كما جاء " إن أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل " . والثانية: أن يعرف الخلقُ مقدار ألم الموت، فقد يطلع الإِنسان على بعض الموتى ولا يرى عليه حركة ولا قلقاً ويرى سهولة خروج روحه، فيظن الأمر سهلاً ولا يعرفُ ما الميتُ فيه، فلما ذكرَ الأنبياءُ الصادقون شدّة الموت مع كرامتهم على اللّه سبحانه، قطعَ الخلقُ بشدة الموت الذي يقاسيه الميت مطلقاً؛ لإِخبار الصادق عنه ما خلا الشهيد قتيل الكفّار على ما ثبت في الحديث.