كيف يكون الإقبال في كل جزء من أجزاء الصلاة
فصل
أسرار الصَّلاة للإمَام العلامَة ابن قيِّم الجَوزيَّة
فإذا انتصب العبد قائماً بين يديه، فإقباله على قيُّومية الله و عظمته فلا يتفلت يمنة و لا يسرة. و إذا كبَّر الله تعالى كان إقباله على كبريائه و إجلاله و عظمته. و كان إقباله على الله في استفتاحه على تسبيحه و الثناء عليه و على سُبحات وجهه، و تنزيهه عمَّا لا يليق به، و يثني عليه بأوصافه و كماله. فإذا استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، كان إقباله على ركنه الشديد، و سلطانه و انتصاره لعبده، و منعه له منه و حفظه من عدوه. و إذا تلى كلامه كان إقباله على معرفته في كلامه كأنه يراه و يشاهده في كلامه كما قال بعض السلف: لقد تجلّي الله لعباده في كلامه. و الناس في ذلك على أقسام و لهم في ذلك مشارب، و أذواق فمنهم البصير، و الأعور، و الأعمى، و الأصم، و الأعمش، و غير ذلك، في حال التلاوة و الصلاة، فهو في هذه الحال ينبغي له أن يكون مقبلاً على ذاته و صفاته و أفعاله و أمره و نهيه و أحكامه و أسمائه. و إذا ركع كان إقباله على عظمة ربه، و إجلاله و عزه و كبرسائه، و لهذا شرع له في ركوعه أن يقول: " سبحان ربي العظيم ". فإذا رفع رأسه من الركوع كان إقباله على حمد ربه و الثناء عليه و تمجيده و عبوديته له و تفرده بالعطاء و المنع. فإذا سجد، كان إقباله على قربه، و الدنو منه، و الخضوع له و التذلل له، و الافتقار إليه و الانكسار بين يديه، و التملق له. فإذا رفع رأسه من السجود جثى على ركبتيه، و كان إقباله على غنائه وجوده، و كرمه و شدة حاجته إليهنّ، و تضرعه بين يديه و الانكسار ؛ أن يغفر له و يرحمه، و يعافيه و يهديه و يرزقه. فإذا جلس في التشهد فله حال آخر، و إقبال آخر يشبه حال الحاج في طواف الوداع، و استشعر قلبه الانصراف من بين يدي ربه إلى أشغال الدنيا و العلائق و الشواغل التي قطعه عنها الوقوف بين يدي ربه و قد ذاق قلبه التألم و العذاب بها قبل دخوله في الصلاة، فباشر قلبه روح القرب، و نعيم الإقبال على الله تعالى، و عافيته منها و انقطاعها عنه مدة الصلاة، ثم استشعر قلبه عوده إليها بخروجه من حمى الصلاة، فهو يحمل همَّ انقضاء الصلاة و فراغه منها و يقول: ليتها اتصلت بيوم اللقاء. و يعلم أنه ينصرف من مناجاة مَن كلّ السعادة في مناجته، إلى مناجاة من كان الأذى و الهم و الغم و النكد في مناجاته، و لا يشعر بهذا و هذا إلا من قلبه حي معمور بذكر الله و محبته، و الأنس به، و من هو عالم بما في مناجاة الخلق و رؤيتهم، و مخالطتهم من الأذى و النكد، و ضيق الصدر و ظلمة القلب، و فوات الحسنات، و اكتساب السيئات، و تشتيت الذهن عن مناجاة الله تعالى عز و جل.