لماذا الاستغفار بين السجدتين
فصل
أسرار الصَّلاة للإمَام العلامَة ابن قيِّم الجَوزيَّة
و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم يكرر الاستغفار في هذه الجلسة فيقول: " رب اغفر لي، رب اغفر لي، رب اغفر لي "، و يكثر من الرغبة فيها إلى ربه. فمثِّل أيها المصلي نفسك فيها بمنزلة غريم عليه حق، و أنت كفيل به، و الغريم مماطل مخادع، و أنت مطلوب بالكفالة، و الغريم مطلوب بالحق، فأنت تستعدي عليه حتى تستخرج ما عليه من الحق،؛ لتتخلص من المطالبة، و القلب شريك النفس في الخير و الشر، و الثواب و العقاب، و الحمد و الذم. و النفس من شأنها الإباق و الخروج من رقِّ العبودية، و تضييع حقوق الله عو و جل و حقوق العباد التي قبلها، و القلب شريكها إن قوي سلطانها و أسيرها، و هي شريكته و أسيرته إن قوي سلطانه. فشرع للعبد إذا رفع رأسه من السجود أن يجثو بين يدي الله تعالى مستعديا على نفسه، معتذرا من ذنبه إلى ربه و مما كان منها، راغباً إليه أن يرحمه و يغفر له و يرحمه و يهديه و يرزقه و يعافيه، ز هذه الخمس كلمات، قد جمعت جماع خير الدنيا و الآخرة فإن العبد محتاج بل مضطر إلى تحصيل مصالحه في الدنيا و في الآخرة، و دفع المضار عنه في الدنيا و الآخرة، و قد تضمّن هذا الدعاء ذلك كله. فإن الرزق يجلب له مصالح دنياه و أخراه و يجمع رزق بدنه و رزق قلبه و روحه، و هو أفضل الرازقين. و العافية تدفع مضارّها. و الهداية تجلب له مصالح أخراه. و المغفرة تدفع عنه مضارّ الدنيا و الآخرة. و الرحمة تجمع ذلك كلّه. و الهداية تعمُّ تفاصيل أموره كلّها. و شرع له أن يعودَ ساجداً كما كان، و لا يكتفي منه بسجدة واحدة في الركعة كما اكتفى منه بركوع واحد ؛ و ذلك لفضل السجود و شرفه و قرب العبد من ربِّه و موقعه من الله عز و جل، حتى إنَّه أقرب ما يكون إلى ربه و هو ساجد، و هو أشهر في العبودية و أعرق فيها من غيره من أركان الصلاة ؛ و لهذا جُعل خاتمة الركعة، و ما قبله كالمقدمة بين يديه، فمحلّه من الصلاة محل طواف الزيارة، و كما أنه أقرب ما يكون العبد من ربه و هو ساجد، فكذلك أقرب ما يكون منه في المناسك و هو طائف كما قال ابن عمر لمن خطب ابنته و هو في الطواف فلم يرد عليه فلما فرغ من الطواف قال: أتذكر أمراً من أمور الدنيا و نحن نتراءى لله سبحانه و تعالى في طوافنا. و لهذا و الله أعلم، جُعل الركوع قبل السجود تدريجا و انتقالاً من الشيء إلى ما هو أعلى منه.