تشبيه القلب بالأرض
فصل
أسرار الصَّلاة للإمَام العلامَة ابن قيِّم الجَوزيَّة
و لما كانت الجدُوب متتابعة على القلوب، و قحطُ النفوس متوالياً عليها، جدّد له الدعوة آلة هذه المأدبة وقتا بعد وقت رحمة منه به، فلا يزال مُستسقيا، طالبا إلى من بيده غيثُ القلوب، و سَقيُها مستمطراً سحائب رحمته لئلا يَيبس ما أنبتته له تلك الرحمة من نبات الإيمان، و كلأ الإحسان و عُشبه و ثماره، و لئلا تنقطع مادة النبات من الروح و القلب، فلا يزال القلب في استسقاء و استمطار هكذا دائما، يشكو إلى ربه جدبه، و قحطه، و ضرورته إلى سُقيا رحمته، و غيث برِّه، فهذا دأب العبد أيام حياته. فالقحط الذي ينزل بالقلب هو الغفلة، فالغفلة هي قحط القلوب و جدبها، و ما دام العبد في ذكر الله و الإقبال عليه فغيث الرحمة ينزل عليه كالمطر المتدارك، فإذا غفل ناله من القحط بحسب غفلته قلة و كثرة، فإذا تمكَّنت الغفلة منه، و استحكمت صارت أرضه خرابا ميتة، و سنته جرداء يابسة، و حريق الشهوات يعمل فيها من كل جانب كالسَّمائم. فتصير أرضه بورا بعد أن كانت مخصبة بأنواع النبات، و الثمار و غيرها، و إذا تدارك عليه غيث الرحمة اهتزت أرض إيمانه و أعماله و ربت، و أنبتت من كلِّ زوج بهيج، فإذا ناله القحط و الجدب كان بمنزلة شجرة رطوبتها و خضرتها و لينها و ثمارها من الماء، فإذا منعت من الماء يبسَت عروقها و ذبلت أغصانها، و حُبست ثمارها، و ربما يبست الأغصان و الشجرة، فإذا مددت منها غصناً إلى نفسك لم يمتد، و لم ينْقَد لك، و انكسر، فحينئذ تقتضي حِكمة قيِّم البستان قَطع تلك الشجرة و جعلَها وقوداً للنار.