فوائد من كتاب مفتاح دار السعادة 3
حكمــــــة
تأمل الممسك للسموات والارض الحافظ لهما ان تزولا او تقعا او يتعطل بعض ما فيهما افترى من الممسك لذلك ومن القيم بأمره ومن المقيم له فلو تعطل بعض آلات هذا الدولاب العظيم والحديقة العظيمة من كان يصلحه وماذا كان عند الخلق كلهم من الحيلة في رده كما كان فلو امسك عنهم قيم السموات والارض الشمس فجعل عليهم الليل سرمدا من الذي كان يطلعها عليهم ويأتيهم بالنهار ولو حبسها في الافق ولم يسيرها فمن ذا الذي كان يسيرها وياتيهم بالليل ولو ان السماء والارض زالتا فمن ذا الذي كان يمسكها من بعده.
حكمــــــة
تأمل هذه الحكمة البالغة في الحر والبرد وقيام الحيوان والنبات عليهما وفكر في دخول احدهما على الاخر بالتدريح والمهلة حتى يبلغ نهايته ولو دخل عليه مفاجاة الأضر ذلك بالابدان وأهلكها وبالنبات كما لو خرج الرجل من حمام مفرط الحرارة الى مكان مفرط في البرودة ولولا العناية والحكمةوالرحمة والاحسان لما كان ذلك فإن قلت هذا التدريج والمهلة إنما كان لابطاء سير الشمس في ارتفاعها وانخفاضها قيل لك فما السبب في ذلك الانخفاض والارتفاع فإن قلت السبب في ذلك بعدالمسافة من مشارقها ومغاربها قيل لك فما السبب في بعد المسافة؟ إما مكابرة ظاهرة ودعوى ان ذلك اتفاق من غير مدبر ولا صانع وإما الاعتراف برب العالمين.
حكمــــــة
تأمل الحكمة في خلق النار على ما هي عليه من الكمون والظهور فانها لو كانت ظاهرة ابدا كالماء والهواء كانت تحرق العالم وتنتشر ويعظم الضرر بها والمفسدة ولو كانت كامنة لا تظهر ابدا لفاتت المصالح المترتبة على وجودها فاقتضت حكمة العزيز العليم ان جعلها مخزونة في الاجسام يخرجها ويبقيها الرجل عند حاجته اليها فيمسكها ويحبسها بمادة يجعلها فيها من الحطب ونحوه فلا يزال حابسها ما احتاج الى بقائها فإذا استغنى عنها وترك حبسها بالمادة خبت باذن ربها وفاطرها فسقطت المؤنة والمضرة ببقائها فسبحان من سخرها وانشأها على تقدير محكم عجيب اجتمع فيه الاستمتاع والانتفاع والسلامة من الضرر.
حكمــــــة
تأمل حكمته تعالى في كونه خص النار للانسان دون غيره من الحيوانات فلا حاجة بالحيوان اليها بخلاف الانسان فإنه لو فقدها لعظم الداخل عليه في معاشه ومصالحه وغيره من الحيوانات لا يستعملها ولايتمتع بها وننبه من مصالح النار على خلة صغيرة القدر عظيمة النفع وهي هذا المصباح الذي يتخذه الناس فيقضون به من حوائجهم ما شاؤا من ليلهم ولو هذه الخلة لكان الناس نصف اعمارهم بمنزلة اصحاب القبور فمن كان يستطيع كتابة او خياطة او صناعة او تصرفا في ظلمة الليل الداجي وكيف كانت تكون حال من عرض له وجع في وقت من الليل فاحتاج الى ضياء او دواء او استخراج دم او غير ذلك.
حكمــــــة
انظر الى ذلك النور المحمول في ذبالة المصباح على صغر جوهره كيف يضيء ما حولك كله فترى به القريب والبعيد ثم انظر الى انه لو اقتبس منه كل من يفرض او يقدر من خلق الله كيف لا يفنى ولا ينفذ ولا يضعف وأما منافع النار في انضاج الاطعمة والادوية وتجفيف مالا ينتفع الا بجفافه وتحليل مالا ينتفع الا بتلحيله وعقد مالا ينتفع الا بعقده وتركيبه فأكثر من ان يحصى.
حكمــــــة
تامل هذا الهواء وما فيه من المصالح فإنه حياة هذه الابدان والممسك لها من داخل بما تستنشق منه ومن خارج بما تباشر به من روحه فتتغذى به ظاهرا وباطنا وفيه تطرد هذه الاصوات فتحملها وتؤديها للقريب والبعيد كالبريد والرسول الذي شأنه حمل الاخبار والرسائل وهو الحامل لهذه الروائح على اختلافها ينقلها من موضع الى موضع فتأتي العبد الرائحة من حيث تهب الريح وكذلك تأتيه الاصوات وهو ايضا الحامل للحر والبرد اللذين بهما صلاح الحيوان والنبات.
حكمــــــة
تأمل منفعة الريح وما يجري له في البر والبحر وما هيئت له من الرحمة والعذاب وتأمل كم سخر للسحاب من ريح حتى امطر فسخرت له المثيرة اولا فتثيره بين السماء والارض ثم سخرت له الحاملة التي تحمله على متنها كالجمل الذي يحمل الراوية ثم سخرت له المؤلفة فتؤلف بين كسفه وقطعه ثم يجتمع بعضها الى بعض فيصير طبقا واحدا ثم سخرت له اللاقحة بمنزلة الذكر الذي يلقح الانثى فتلقحه بالماء ولولاها لكان جهاما لا ماء فيه ثم سخرت له المزجية التي تزجيه وتسوقه الى حيث أمر فيفرغ ماءه هنالك ثم سخرت له بعد اعصاره المفرقة التي تبثه وتفرقه في الجو فلا ينزل مجتمعا ولو نزل جملة لأهلك المساكن والحيوان والنبات بل تفرقه فتجعله قطرا.
حكمــــــة
هناك الرياح التي تلقح الشجر والنبات ولولاها لكانت عقيما وكذلك الرياح التي تسير السفن ولولاها لوقفت على ظهر البحر ومن منافعها انها تبرد الماء وتضرم النار التي يراد اضرامها وتجفف الاشياء التي يحتاج الى جفافها وبالجملة فحياة ما على الارض من نبات وحيوان بالرياح فإنه لولا تسخير الله لها لعباده لذوي النبات ومات الحيوان وفسدت المطاعم وأنتن العالم وفسد الا ترى اذا ركدت الرياح كيف يحدث الكرب والغم الذي لو دام لأتلف النفوس واسقم الحيوان وامرض الاصحاء وانهك المرضى وافسد الثمار وعفن الزرع واحدث الوباء في الجو فسبحان من جعل هبوب الرياح تأتي بروحه ورحمته ولطفه ونعمته.
حكمــــــة
تأمل خلق الارض على ما هي عليه حين خلقها واقفة ساكنة لتكون مهادا ومستقرا للحيوان والنبات والامتعة ويتمكن الحيوان والناس من السعي عليها في مآربهم والجلوس لراحاتهم والنوم لهدوهم والتمكن من اعمالهم ولو كان رجراجة متكفئة لم يستطيعوا على ظهرها قرارا ولا هدوا ولا ثبت لهم عليها بناء ولا امكنهم عليها صناعة ولا تجارة ولا حراثة ولا مصلحة وكيف كانوا يتهنون بالعيش والارض ترتج من تحته واعتبر ذلك بما يصيبهم من الزلازل على قلة مكثها كيف تصيرهم الى ترك منازلهم والهرب عنها وقد نبه الله تعالى على ذلك بقوله " والقى في الارض رواسي ان تميد بكم "
حكمــــــة
تأمل الحكمة البالغة في ليونة الارض مع يبسها فانها لو افرطت في اللين كالطين لم يستقر عليها بناء ولا حيوان ولا تمكنا من الانتفاع بها ولو افرطت في اليبس كالحجر لم يمكن حرثها ولا زرعها ولا شقها وفلحها ولا حفر عيونها ولا البناء عليها فنقصت عن يبس الحجارة وزادت على ليونة الطين فجاءت بتقدير فاطرها على احسن ما جاء عليه مهاد للحيوان من الاعتدال بين اللين واليبوسة فتهيأ عليها جميع المصالح.
حكمــــــة
تأمل الحكمة البالغة في ان جعل مهب الشمال عليها ارفع من مهب الجنوب وحكمة ذلك ان تتحدر المياه على وجه الارض فتسقيها وترويها ثم تفيض فتصب في البحر فكما ان الباني إذا رفع سطحا رفع احد جانبيه وخفض الاخر ليكون مصبا للماء ولو جعله مستويا لقام عليه الماء فافسده كذلك جعل مهب الشمال في كل بلد ارفع من مهب الجنوب ولولا ذلك لبقي الماء واقفا على وجه الارض فمنع الناس من العمل والانتفاع وقطع الطرق والمسالك واضر بالخلق افيحسن عند من له مسكة من عقل ان يقول هذا كله اتفاق من غير تدبير العزيز الحكيم الذي اتقن كل شيء.
حكمــــــة
تأمل الحكمة العجيبة في الجبال الذي يحسبها الجاهل الغافل فضلة في الارض لا حاجة اليها وفيها من المنافع مالا يحصيه الا خالقها وناصبها فمن منافعها ان الثلج يسقط عليها فيبقى في قللها حاصلا لشراب الناس الى حين نقاذه وجعل فيها ليذوب اولا فأولا فتجيء منه السيول الغزيرة وتسيل منه الانهار والاودية فينبت في المروج والوهاد والربا ضروب النبات والفواكه والادوية التي لا يكون مثلها في السهل والرمل فلولا الجبال لسقط الثلج على وجه الارض فانحل جملة وساح دفعة فعدم وقت الحاجة اليه وكان في انحلاله جملة السيول التي تهلك ما مرت عليه فيضر بالناس ضررا لا يمكن تلافيه ولا دفعه.
حكمــــــة
إن من منافع الجبال انها اكنان للناس والحيوان ومن منافعها ما ينحت من احجارها للأبينة على اختلاف اصنافها والارحية وغيرها ومن منافعها ما يوجد فيها من المعادن على اختلاف اصنافها من الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والزبرجد والزمرد واضعاف ذلك من انواع المعادن الذي يعجز البشر عن معرفتها على التفصيل حتى ان فيها ما يكون الشيء اليسير منه تزيد قيمته ومنفعته على قيمة الذهب باضعاف مضاعفة وفيها من المنافع مالا يعلمه الا فاطرها ومبدعها سبحانه.
حكمــــــة
إن من منافع الجبال انها ترد الرياح العاصفة وتكسر حدتها فلا تدعها تصدم ما تحتها ولهذا فالساكنون تحتها في امان من الرياح العظام المؤذية ومن منافعها ايضا انها ترد عنهم السيول إذا كانت في مجاريها فتصرفها عنهم ذات اليمين وذات الشمال ولولاها خربت السيول في مجاريها ما مرت به فتكون لهم بمنزلة السد والسكن.
حكمــــــة
إن من منافع الجبال ما ينبت فيها من العقاقير والادوية التي لا تكون في السهول والرمال كما ان ما ينبت في السهول والرمال لا ينبت مثله في الجبال وفي كل من هذا وهذا منافع وحكم لا يحيط به الا الخلاق العليم ومن منافعها انها تكون حصونا من الاعداء يتحرز فيها عباد الله من اعدائهم كما يتحصنون بالقلاع بل تكون أبلغ وأحصن من كثير من القلاع والمدن ومن منافعها ما ذكره الله تعالى في كتابه ان جعلها للأرض اوتادا تثبتها ورواسي بمنزلة مراسي السفن واعظم بها من منفعة وحكمة.
حكمــــــة
إذا تأملت الجبال وخلقتها العجيبة البديعة على هذا الوضع وجدتها في غاية المطابقة للحكمة فانها لو طالت واستدفت كالحائط لتعذر الصعود عليها والانتفاع بها وسترت عن الناس الشمس والهواء فلم يتمكنوا من الانتفاع بها ولو بسطت على وجه الارض لضيقت عليهم المزارع والمساكن ولملأت السهل ولما حصل لهم بها الانتفاع من التحصن والمغارات والاكنان ولما سترت عنهم الرياح ولما حجبت السيول ولو جعلت مستديرة شكل الكرة لم يتمكنوا من صعودها ولما حصل لهم بها الانتفاع التام فكان اولى الاشكال والاوضاع بها واليقها واوقعها على وفق المصلحة هذا الشكل الذي نصبت عليه.
حكمــــــة
لقد دعانا الله سبحانه في كتابه الى النظر فيها وفي كيفية خلقها فقال " أفلا ينظرون الى الابل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت " فخلقها ومنافعها من اكبر الشواهد على قدره باريها وفاطرها وعلمه وحكمته ووحدانيته هذا مع انها تسبح بحمده وتخشع له وتسجد وتشقق وتهبط من خشيته وهي التي خافت من ربها وفاطرها وخالقها على شدتها وعظم خلقها من الامانة إذ عرضها عليها واشفقت من حملها ومنها الجبل الذي كلم الله عليه موسى كليمه ونجيه ومنها الجبل الذي تجلى له ربه فساخ وتدكدك.
حكمــــــة
من الجبال: جبل الرحمة المنصوب عليه ميدان عرفات فلله كم به من ذنب مغفور وعثرة مقالة وزلة معفو عنها وحاجة مقضية وكربة مفروجة وبلية مرفوعة ونعمة متجددة وسعادة مكتسبة وشقاوة ممحوة كيف وهو الجبل المخصوص بذلك الجمع الاعظم والوفد الاكرم الذين جاؤا من كل فج عميق وقوفا لربهم مستكينين لعظمته خاشعين لعزته شعثا غبرا حاسرين عن رؤسهم يستقبلوله عثراتهم ويسألونه حاجاتهم فيدنو منهم ثم يباهي بهم الملائكة فلله ذاك الجبل وما ينزل عليه من الرحمة والتجاوز عن الذنوب العظام.
حكمــــــة
من الجبال: جبل حراء الذي كان رسول الله يخلو فيه بربه حتى اكرمه الله برسالته وهو في غارة فهو الجبل الذي فاض منه النور على اقطار العالم فإنه ليفخر على الجبال وحق له ذلك فسبحان من اختص برحمته وتكريمه من شاء من الجبال والرجال فجعل منها جبالا هي مغناطيس القلوب كأنها مركبة منه فهي تهوى اليها كلما ذكرتها وتهفو نحوها كما اختص من الرجال من خصه بكرامته وأتم عليه نعمته ووضع عليه محبته منه فأحبه وحببه الى ملائكته وعباده المؤمنين ووضع له القبول في الارض بينهم.
حكمــــــة
لتعلم ان للجبال موعدا ويما تنسف فيها نسفا وتصير كالعهن من هوله وعظمه فهي مشفقة من هول ذلك الموعد منتظرة له وكانت ام الدرداء رضى الله عنها إذا سافرت فصعدت على جبل تقول لمن معها اسمعت الجبال ما وعدها ربها فيقال ما اسمعها فتقول " ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا امتا " فهذا حال الجبال وهي الحجارة الصلبة وهذه رقتها وخشيتها وتدكدكها من جلال ربها وعظمته.
حكمــــــة
إن الجبال قد اخبر عنها فاطرها وباريها انه لو انزل عليها كلامه لخشعت ولتصدعت من خشية الله في عجبا من مضغة لحم اقسى من هذه الجبال تسمع آيات الله تتلى عليها ويذكر الرب تبارك وتعالى فلا تلين ولا تخشع ولا تنيب فليس بمستنكر على الله عز وجل ولا يخالف حكمته ان يخلق لها نارا تذيبها إذ لم تلن بكلامه وذكره وزواجره ومواعظه فمن لم يلن لله في هذه الدار قلبه ولم ينب اليه ولم يذبه بحبه والبكاء من خشيته فليتمتع قليلا فان امامه الملين الاعظم وسيرد الى عالم الغيب والشهادة فيرى ويعلم.
حكمــــــة
لما اقتضت حكمته تبارك وتعالى ان جعل من الارض السهل والوعر والجبال والرمل لينتفع بكل ذلك في وجهه ويحصل منه ما خلق له وكانت الارض بهذه المثابة لزم من ذلك ان صارت كالأم التي تحمل في بطنها انواع الاولاد من كل صنف ثم تخرج الى الناس والحيوان من ذلك ما اذن لها فيه ربها ان تخرجه اما بعلمهم وإما بدونه ثم يرد اليها ما خرج منها وجعلها سبحانه كفاتا فلأحياء ما داموا على ظهرها فإذا ماتوا استودعتهم في بطنها فكانت كفاتا لهم تضمهم على ظهرها احياء وفي بطنها امواتا.
حكمــــــة
لما كانت الرياح تجول فيها وتدخل في تجاويفها وتحدث فيها الابخرة وتخفق الرياح ويتعذر عليها المنفذ اذن الله سبحانه لها في الاحيان بالتنفس فتحدث فيها الزلازال العظام فيحدث من ذلك لعباده الخوف والخشية والانابة والاقلاع عن معاصيه والتضرعاليه والندم كما قال بعض السلف وقد زلزلت الارض ان ربكم يستعتبكم وقال عمر بن الخطاب وقد زلزلت المدينة فخطبهم ووعظهم وقال لئن عادت لا اساكنكم فيها.
حكمــــــة
تأمل حكمة الله عز وجل في عزة هذين النقدين الذهب والفضة وقصور خيرة العالم عما حاولوا من صنعتهما والتشبه بخلق الله اياهما مع شدة حرصهم وبلوغ اقصى جهدهم واجتهادهم في ذلك فلم يظفروا بسوى الصنعة ولو مكنوا ان يصنعوا مثل ما خلق الله من ذلك لفسد امر العالم واستفاض الذهب والفضة في الناس حتى صار كالسعف والفخار وكانت تتعطل المصلحة التي وضعا لاجلها وكانت كثرتهما جدا سبب تعطل الانتفاع بهما فانه لا يبقى لهما قيمة ويبطل كونهما قيما لنفائس الاموال والمعاملات وارزاق المقاتلة ولم يتسخر بعض الناس لبعض إذ يصير الكل ارباب ذهب وفضة فلو اغنى خلقه كلهم لأفقرهم كلهم.
حكمــــــة
تأمل الحكمة البديعة في تيسيره سبحانه على عباده ما هم احوج اليه وتوسيعه وبذلك بذلهفكلما كانوا احوج اليه كان اكثر واوسع وكلما استغنوا عنه كان اقل وإذا توسطت الحاجة توسط وجوده فلم يكن بالعام ولا بالنادر على مراتب الحاجات وتفاوتها فاعتبر هذا بالاصول الاربعة التراب والماء والهواء والنار وتأمل سعة ما خلق الله منها وكثرته فتأمل سعة الهواء وعمومه ووجوده بكل مكان لأن الحيوان مخلوق في البر لايمكنه الحياة إلا به فهو معه أينما كان وحيث كان لانه لا يستغنى عنه لحظه واحدة ولولا كثرته وسعته وامتداده في اقطار العالم لاختنق العالم من الدخان والبخار المتصاعد المنعقد.
حكمــــــة
تأمل حكمة ربك في ان سخر له الرياح فإذا تصاعد الى الجو احالته سحابا او ضبابا فأذهبت عن العالم شره وأذاه فسل الجاحد من الذي دبر هذا التدبير وقدر هذا التقدير وهل يقدر العالم كلهم لو اجتمعوا ان يحيلوا ذلك ويقلبوه سحابا او ضبابا او يذهبوه عن الناس ويكشفوه عنهم ولو شاء ربه تعالى لحبس عنه الرياح فاختنق على وجه الارض فأهلك ما عليها من الحيوان والناس.
حكمــــــة
تأمل حكمة ربك في سعة الارض وامتدادها ولولا ذلك لضاقت عن مساكن الانس والحيوان وعن مزارعهم ومراعيهم ومنابت ثمارهم واعشابهم فان قلت فما حكمة هذه القفار الخالية والفلوات الفارغة الموحشة فاعلم ان فيها معايش مالا يحصيه الا الله من الوحوش والدواب وعليها ارزاقهم وفيها مطردهم ومنزلهم كالمدن والمساكن للانس وفيها مجالهم ومرعاهم ومصيفهم ومشتهاهم ثم فيها بعد متسع ومتنفس للناس ومضطرب إذا احتاجوا الى الانتقال والبدو والاستبدال بالاوطان فكم من بيداء سملق صارت قصورا وجنانا ومساكن ولولا سعة الارض وفسحها لكان اهلها كالمحصورين والمحبوسين في أماكنهم.
حكمــــــة
تأمل حكمة ربك في الماء لولا كثرته وتدفقه في الاودية والانهار لضاق عن حاجة الناس اليه ولغلب القوى الضعيف واستبد به دونه فيحصل الضرر وتعظم البلية مع شدة حاجة جميع الحيوان اليه من الطير والوحوش والسباع فاقتضت الحكمة ان كان بهذه الكثرة والسعة في كل وقت وأما النار فقد تقدم ان الحكمة اقتضت كموتها متى شاء العبد اوراها عند الحاجة فهي وان لم تكن مبثوثة في كل مكان فانها عتيدة حاصلة متى احتيج اليها واسعة لكل ما يحتاج اليه منها غير انها مودعة في أجسام جعلت معادن لها للحكمة التي تقدمت لا يجدون عنها انتقالا إذا فدحهم ما يزعجهم عنها ويضطرهم الى النقلة.
حكمــــــة
تأمل الحكمة البالغة في نزول المطر على الارض من علو ليعم بسقيه وهادها وتلولها وظرابها وآكامها ومنخفضها ومرتفعها ولو كان ربها تعالى إنما يسقيها من ناحية من نواحيها لما اتى الماء على الناحية المرتفعة إلا إذا اجتمع في السفلى وكثر وفي ذلك فساد فاقتضت حكمته ان سقاها من فوقها فينشيء سبحانه السحاب وهي روايا الارض ثم يرسل الرياح فتحمل الماء من البحر وتلقحها به كما يلقح الفحل الانثى ولهذا تجد البلاد القريبة من البحر كثيرة الامطار وإذا بعدت من البحر قل مطرها.
حكمــــــة
تأمل الحكمة الالهية في اخراج الاقوات والثمار والحبوب والفواكه متلاحقة شيئا بعد شيء متتابعة ولم يخلقها كلها جملة واحدة فانها لو خلقت كذلك على وجه الارض ولم تكن تنبت على هذه السوق والاغصان لدخل الخلل وفاتت المصالح التي رتبت على تلاحقها وتتابعها فإن كل فصل واوان يقتضى من الفواكه والنبات غير ما يتقضيه الفصل الاخر فهذا حار وهذا بارد وهذا معتدل وكل في فصله موافق للمصلحة لا يليق به غير ما خلق فيه.
حكمــــــة
تأمل إذا نصبت خيمة او فسطاطا كيف تمده من كل جانب بالاطناب ليثبت فلا يسقط ولا يتعوج هكذا تجد النبات والشجر له عروق ممتدة في الارض منتشرة الى كل جانب لتمسكه وتقيمه وكلما انتشرت أعاليه امتدت عروقه واطنابه من اسفل في الجهات ولولا ذلك كيف كانت تثبت هذه النخيل الطوال الباسقات والدوح العظام على الرياح العواصف وتأمل سبق الخلق الالهية للصناعة البشرية حتى يعلم الناس نصب الخيم والفساطيط من خلقه للشجر والنبات لان عروقها اطناب لها كأطناب الخيمة واغصان الشجر يتخذ منها الفساطيط ثم يحاكى بها الشجرة.
حكمــــــة
تأمل الحكمة في خلق الورق فإنك ترى في الورقة الواحدة من جملة العروق الممتدة فيها المبثوثة فيها ما يبهر الناظر فمنها غلاظ ممتدة في الطول والعرض ومنها دقاق تتخلل تلك الغلاظ منسوجة نسجا دقيقا معجبا لو كان مما يتولى البشر صنع مثله بأيديهم لما فرغوا من ورقة في عام كامل ولاحتاجوا فيه الى آلات وحركات وعلاج تعجز قدرتهم عن تحصيله فبث الخلاق العليم في أيام قلائل من ذلك ما يملأ الارض سهلها وجبالها بلا آلات ولا معين ولا معالجة ان هي إلا ارادته النافذة في كل شيء وقدرته التي لا يمتنع منها شيء إنما امره إذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون.
حكمــــــة
تأمل حكمته سبحانه فى خلقه الرمان وماذا فيه من الحكم والعجائب فإنك ترى داخل الرمانة كأمثال القلال شحما متراكما في نواحيها وترى ذلك الحب فيها مرصوفا رصفا ومنضودا نضدا لاتمكن الايدي ان تنضده وترى الحب مقسوما اقساما وفرقا وكل قسم وفرقة منه ملفوفا بلفائف وحجب منسوجة اعجب نسج والطفه وأدقه على غير منوال الا منوال ^ كن فيكون ^ ثم ترى الوعاء المحكم الصلب قد اشتمل على ذلككله وضمه احسن ضم فتأمل هذه الحكمة البديعة في الشحم المودع فيها فإن الحب لا يمد بعضه بعضا إذ لو مد بعضه بعضا لاختلط وصار حبة واحدة فجعل ذلك الشحم خلاله ليمده بالغذاء.
حكمــــــة
تأمل هذا الريع والنماء الذي وضعه الله في الزرع حتى صارت الحبة الواحدة ربما انبتت سبعمائة حبة ولو انبتت الحبة حبة واحدة مثلها لا يكون في الغلة متسع لما يرد في الارض من الحب وما يكفي الناس ويقوت الزارع الى إدراك زرعه فصار الزرع بريع هذا الريع ليفي بما يحتاج اليه للقوت والزراعة وكذلك ثمار الاشجار والنخيل وكذلك ما يخرج مع الاصل الواحد منها من الصنوان ليكون لما يقطعه الناس ويستعلمونه في مآربهم خلفا فلاتبطل المادة عليهم ولا تنقص.
حكمــــــة
تأمل الحكمة في الحبوب كالبر والشعير ونحوهما كيف يخرج الحب مدرجا في قشور على رؤسها امثال الاسنة فلا يتمكن جند الطير من افسادها والعبث فيها فإنه لو صادف الحب بارزا لا صوان عليه ولا وقاية تحول دونه لتمكن منه كل التمكن فأفسدوا عاب وعاث وأكب عليه أكلا ما استطاع وعجز ارباب الزرع عن رده فجعل اللطيف الخبير عليه هذه الوقايات لتصونه فينال الطير منه مقدار قوته ويبقى اكثره للانسان فإنه اولى به لانه هو الذي كدح فيه وشقى به وكان الذي يحتاج اليه اضعاف حاجة الطير.
حكمــــــة
تأمل كيف اقتضت الحكمة الالهية موافات اصناف الفواكه والثمار للناس بحسب الوقت المشاكل لها المقتضى لها فتوافيهم كموافاة الماء للظمآن فتتلقاها الطبيعة بانشراح واشتياق منتظرة لقدومها كانتظار الغائب للغائب فلو كان نبات الصيف انما يوافي في الشتاء لصادف من الناس كراهية واستثقالا بوروده مع ما كان فيه من المضرة للابدان والاذى لها وكذلك لو وافى ما في ربيعها في الخريف او ما في خريفها في الربيع لم يقع من النفوس ذلك الموقع ولا استطابته واستلذته ذلك الالتذاذ ولهذا تجد المتأخر منها عن وقته مملولا محلول الطعم.
حكمــــــة
تأمل هذه النخلة التي هي احدى آيات الله تجد فيها من الايات والعجائب ما يبهرك فإنه لما قدر ان يكون فيه اناث تحتاج الى اللقاح جعلت فيها ذكور تلقحها بمنزلة الحيوان واناثه ولذلك اشتد شبهها من بين سائر الاشجار بالانسان خصوصا بالمؤمن كما مثله النبي وذلك من وجوه كثيرة احدها ثبات اصلها في الارض واستقراره فيها وليست بمنزلة الشجرة التي اجتثت من فوق الارض مالها من قرار الثاني طيب ثمرتها وحلاوتها وعموم المنفعة بها كذلك المؤمن طيب الكلام طيب العمل فيه المنفعة لنفسه ولغيره الثالث دوام لباسها وزينتها فلا يسقط عنها صيفا ولا شتاء كذلك المؤمن لا يزول عنه لباس التقوى وزينتها حتى يوافي ربه تعالى....
حكمــــــة
لعلك تقول ما حكمة هذا النبات المبثوث في الصحارى والقفار والجبال التي لا انيس بها ولا ساكن وتظن انه فضلة لا حاجة اليه ولا فائدة في خلقه وهذامقدار عقلك ونهاية علمك فكم لباريه وخالقه فيه من حكمة وآية من طعم أوحش وطير ودواب مساكنها حيث لاتراها تحت الارض وفوقها فذلك بمنزلة مائدة نصبها الله لهذه الطيور والدواب تتناول منها كفايتها ويبقى الباقي كما يبقى الرزق الواسع الفاضل عن الضيف لسعة رب الطعام وغناه التام وكثرة إنعامه.
حكمــــــة
تأمل الحكمة البالغة في اعطائه سبحانه بهيمة الانعام الاسماع والابصار ليتم تناولها لمصالحها ويكمل انتفاع الانسان بها إذ لو كانت عمياء او صماء لم يتمكن من الانتفاع بها ثم سلبها العقول على كبر خلقها التي للانسان ليتم تسخيره اياها فيقودها ويصرفها حيث شاء ولو اعطيت العقول على كبر خلقها لامتنعت من طاعته واستعصت عليه ولم تكن مسخرة له فأعطيت من التمييز والادراك ما تتم به مصلحتها ومصلحة من ذلك له وسلبت من الذهن والعقل ما ميز به عليها الانسان وليظهر ايضا فضيلة التمييز والاختصاص.
حكمــــــة
تأمل كيف قادها وذللها على كبر اجسامها ولم يكن يطيقها لولا تسخيره قال الله تعالى " وجعل لكم من الفلك والانعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين " أي مطيقين ضابطين وقال تعالى " او لم يروا انا خلقنا لهم مما عملت ايدينا انعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون " فترى البعير على عظم خلقته يقوده الصبي الصغير ذليلا منقادا ولو ارسل عليه لسواه بالارض ولفصله عضوا عضوا فسل المعطل من الذي ذلله وسخره وقاده على قوته لبشر ضعيف من اضعف المخلوقات.
حكمــــــة
تأمل الحكمة في خلق الات البطش في الحيوانات من الانسان وغيره فالانسان لما خلق مهيئا لمثل هذه الصناعات من البناء والخياطة والكتابة وغيرها خلق له كف مستدير منبسط واصابع يتمكن بها من القبض والبسط والطي والنشر والجمع والتفريق وضم الشيء الى مثله والحيوان البهيم لما لم يتهيأ لتلك الصنائع لم يخلق له تلك الاكف والاصابع بل لما قدر ان يكون غذاء بعضها من صيده كالسباع خلق له اكف لطافه مدمجة ذوات براثن ومخالب تصلح لاقتتاص الصيد ولا تصلح للصناعات هذا كله في أكلة اللحم من الحيوان.
حكمــــــة
تأمل اولا ذوات الاربع من الحيوان كيف تراها تتبع امهاتها مستقلة بأنفسها فلاتحتاج الى الحمل والتربية كما يحتاج اليه اولاد الانس فمن اجل انه ليس عند امهاتها ما عند امهات البشر من التربية والملاطفة والرفق والالات المتصلة والمنفصلة اعطاها اللطيف الخبير النهوض والاستقلال بانفسها على قرب العهد بالولادة ولذلك ترى افراخ كثير من الطير كالدجاج والدراج والفتخ يدرج ويلقط حين يخرج من البيضة وما كان منها ضعيف النهوض كفراخ الحمام واليمام اعطى سبحانه امهاتها من فضله العطف والشفقة والحنان ما تمج به الطعم في أفواه الفراخ من حواصلها فتخبأه في اعز مكان فيها ثم تسوقه من فيها الى افواه الفراخ.
حكمــــــة
تأمل الحكمة البالغة في قوائم الحيوان كيف اقتضت ان يكون زوجا لا فردا اما اثنتين وإما اربعا ليتهيأ له المشي والسعي وتتم بذلك مصلحته إذ لو كانت فردا لم يصلح لذلك لان الماشي ينتقل ببعض قوائمه ويعتمد على بعض فذو القائمتين ينقل واحدة ويعتمد على الاخرى وذو الاربع ينقل اثنتين ويعتمد على اثنتين وذلك من خلاف لأنه لو كان ينقل قائمتين من جانب ويعتمد على قائمتين من الجانب الاخر لم يثبت على الارض حال نقله قوائمه ولكان مشيه نقرا كنقر الطائر وذلك مما يؤذيه ويتبعه لنقل بدنه بخلاف الطائر ولهذا إذا مشى الانسان كذلك قليلا اجهده وشق عليه بخلاف مشية الطبيعي.
حكمــــــة
تأمل الحكمة البالغة في ان جعل ظهور الدواب مبسوطة كأنها سقف على عمد القوائم ليتهيأ ركوبها وتستقر الحمولة عليها ثم خولف هذا في الابل فجعل ظهورها مسنمة معقودة كالقبو لما خصت به من فضل القوة وعظم ما تحمله والاقباء تحمل اكثر مما تحمل السقوف حتى قيل إن عقد الاقباء إنما اخذ من ظهور الابل وتأمل كيف لما طول قوائم البعير طول عنقه ليتناول المرعي من قيام فلو قصرت عنقه لم يمكنه ذلك مع طول قوائمه وليكون ايضا طول عنقه موازنا للحمل على ظهره إذا استقل به.
حكمــــــة
تأمل الحكمة الباهرة في وجه الدابة كيف هو فانك ترى العينين فيه شاخصتين امامها لتبصر ما بين يديها اتم من بصر غيرها لانها تحرس نفسها وراكبها فتتقى ان تصدم حائطا او تتردى في حفرة فجعلت عيناها كعيني المنتصب القامة لانها طليعة وجعل فوها مشقوقا في اسفل الخطم لتتمكن من العض والقبض على العلف إذ لو كان فوقها في مقدم الخطم كما انه من الانسان في مقدم الذقن لما استطاعت ان تتناول به شيئا من الارض الا ترى الانسان لا تناول الطعام بفيه لكن بيده فلما لم تكن الدابة تتناول طعامها بيدها جعل خطمها مشقوقا من أسفله لتضعه على العلف ثم تقضمه واعينت بالجحفلة وهي لها كالشفة للانسان.
حكمــــــة
تأمل خلق الزرافة واختلاف اعضائهم وشبهها باعضاء جميع الحيوان فراسها راس فرس وعنقها عنق بعير وأظلافها أظلاف بقرة وجلدها جلد نمر واما طول عنق الزرافة وما لها فيه من المصلحة فلأن منشأها ومرعاها كما ذكر المعتنون بحالها ومساكنها في غياض ذوات اشجار شاهقة ذاهبة طولا فأعينت بطول العنق لتتناول اطراف الشجر الذي هناك وثمارها وهذا ما وصلت اليه معرفتهم وحكمة اللطيف الخبير فوق ذلك واجل منه.
حكمــــــة
تأمل هذه النملة الضعيفة وما اعطيته من الفطنة او لحيلة في جمع القوت وادخاره وحفظه ودفع الافة عنه فإنك ترى في ذلك عبرا وآيات فترى جماعة النمل إذا أرادت إحراز القوت خرجت من اسرابها طالبة له فإذا ظفرت به اخذت طريقا من اسرابها اليه وشرعت في نقله فتراها رفقتين رفقة حاملة تحمله الى بيوتها سربا ذاهبا ورفقة خارجة من بيوتها اليه لاتخالط تلك في طريقها بل هما كالخيطين بمنزلة جماعة الناس الذاهبين في طريق والجماعة الراجعين من جانبهم فإذا ثقل عليها حمل الشيء من تلك اجتمعت عليه جماعة من النمل وتساعدت على حمله.
حكمــــــة
تأمل الحكمة في حوصلة الطائر وما قدرت له فإن في مسلك الطعام الى القابضة ضيق لا ينفذ فيه الطعام إلا قليلا فلو كان الطائر لا يلتقط حبة ثانية حتى تصل الاولى الى جوفه لطال ذلك عليه فمتى كان يستوفي طعامه وإنما يختلسه اختلاسا لشدة الحذر فجعلت له الحوصلة كالمخلاة المعلقة امامه ليوعى فيها ما ازدرد من الطعم بسرعة ثم ينقل الى القابضة على مهل وفي الحوصلة ايضا خصلة اخرى فإن من الطير ما يحتاج الى ان يزق فراخه فيكون رده الطعم من قرب ليسهل عليه.
حكمــــــة
تأمل هذه الالوان والاصباغ والوشى التي تراها في كثير من الطير كالطاووس والدراج وغيرهما التي لو خطت بدقيق الاقلام ووشيت بالايدي لم يكن هذا فمن اين في الطبيعة المجردة هذا التشكيل والتخطيط والتلوين والصبغ العجيب البسيط والمركب الذي لو اجتمعت الخليقة على ان يحاكوه لتعذر عليهم فتأمل ريش الطاووس كيف هو فإنك تراه كنسج الثوب الرفيع من خيوط رفاع جدا قد ألف بعضها الى بعض كتأليف الخيط الى الخيط بل الشعرة الى الشعرة.
حكمــــــة
تأمل هذه العصافير كيف تطلب اكلها بالنهار كله فلا هي تفقده ولا هي تجده مجموعا معدا بل تناله بالحركة والطلب في الجهات والنواحي فسبحان الذي قدره ويسره كيف لم يجعله ممايتعذر عليها إذا التمسته ويفوتها إذا قعدت عنه وجعلها قادرة عليه في كل حين واوان بكل ارض ومكان حتى من الجدران والاسطحة والسقوف تناوله بالهوينا من السعي فلا يشاركها فيه غير بني جنسها من الطير ولو كان ماتقتات به يوجد معدا مجموعا كله كانت الطير تشاركها فيه وتغلبها عليه وكذلك لو وجدته معدا مجموعا لاكبت عليه بحرص ورغبة فلا تقلع عنه وإن شبعت حتى تبشم وتهلك.
حكمــــــة
انظر في هذه الطير التي لا تخرج الا بالليل كالبوم والهام والخفاش فإن أقواتها هيئت لها في الجو لا من الحب ولا من اللحم بل من البعوض والفراش وأشبابهما مما تلقطه من الجو فتاخذ منه بقدر الحاجة ثم تأوى الى بيوتها فلا تخرج الى مثل ذلك الوقت بالليل وذلك ان هذه الضروب من البعوض والفراش وأشباههما مبثوثة في الجو لا يكاد يخلو منها موضع منه.
حكمــــــة
تأمل احوال النحل وما فيها من العبر والايات فانظر اليها والى اجتهادها في صنعة العسل وبنائها البيوت المسدسة التي هي من اتم الاشكال واحسنها استدارة واحكمها صنعا فإذا انضم بعضها الى بعض لم يكن بينها فرجة ولا خلل كل هذا بغير مقياس ولا آله ولا بيكار وتلك من اثر صنع الله وإلهامه إياها وايحائه اليها كما قال تعالى " واوحى ربك الى النحل ان اتخذي من الجبال بيوتا " الى قوله " لايات لقوم يتفكرون " فتأمل كمال طاعتها وحسن ائتمارها لأمر ربها اتخذت بيوتها في هذه الامكنة الثلاثة في الجبال الشقفان وفي الشجر وفي بيوت الناس حيث يعرشون أي بيبنون العروش وهي البيوت.
حكمــــــة
لا يرى للنحل بيت غير هذه الثلاثة البتة فى الجبال الشقفان وفي الشجر وفي بيوت الناس وتامل كيف اكثر بيوتها في الجبال والشقفان وهو البيت المقدم في الاية ثم في الاشجار وهي من اكثر بيوتها ومما يعرش الناس واقل بيوتها بينهم حيث يعرشون وأما في الجبال والشجر فبيوت عظيمة يؤخذ منها من العسل الكثير جدا وتامل كيف اداها حسن الامتثال الى ان اتخذت البيوت او لا فإذا استقر لها بيت خرجت منه فرعت وأكلت من الثمار ثم آوت الى بيوتها لان ربها سبحانه امرها باتخاذ البيوت اولا ثم بالاكل بعد ذلك ثم إذا اكلت سلكت سبل ربها مذللة لا يستوعز عليها شيء ترعى ثم تعود.
حكمــــــة
إن من عجيب شأن النحل أن لها اميرا يسمى اليعسوب لا يتم لها رواح ولا إياب ولا عمل ولا مرعى إلا به فهي مؤتمره لامره سامعة له مطيعه وله عليها تكليف وأمر ونهى وهي رعية له منقادة لامره متبعة لرايه يدبرها كما يدبر الملك امر رعيته حتى إنها إذا آوت الا بيوتها وقف على باب البيت فلا يدع واحدة تزاحم الاخرى ولا تتقدم عليها في العبور بل تعبر بيوتها واحدة بعد واحدة بغير تزاحم ولا تصادم ولا تراكم كما يفعل الامير إذا انتهى بعسكره الى معبر ضيق لا يجوزه الا واحد واحد.
حكمــــــة
تأمل العبرة التي ذكرها الله عز وجل في الانعام وما سقانا من بطونها من اللبن الخالص السائغ الهنيء المريء الخارج من بين الفرث والدم فتأمل كيف ينزل الغذاء من أفواهها الى المعدة فينقلب بعضه دما باذن الله وما يسرى في عروقها واعضائها وشحومها ولحومها فإذا ارسلته العروق في مجاريها الى جملة الاجزاء قلبه كل عضو او عصب وغضروف وشعر وظفر وحافر الى طبيعته ثم يبقى الدم في تلك الخزائن التي له إذ به قوام الحيوان ثم ينصب ثقله الى الكرش فيصير زبلا ثم ينقلب باقية لبنا صافيا ابيض سائغا للشاربين فيخرج من بين الفرث والدم.
حكمــــــة
تأمل العبرة في السمك وكيفية خلقته وأنه خلق غير ذي قوائم لانه لا يحتاج الى المشي إذ كان مسكنه الماء ولم يخلق له رئة لان منفعة الرئة التنفس والسمك لم يحتج اليه لانه ينغمس في الماء وخلقت له عوض القوائم اجنحة شدادي يقذف بها من جانبيه كما يقذف صاحب المركب بالمقاذيف من جانبي السفينة وكسى لجده قسورا متداخلة كتداخل الجوشن ليقيه من الافات واعين بقوة الشم لان بصره ضعيف والماء يحجبه فصار يشم الطعام من بعد فيقصده.
حكمــــــة
إن الماء للحيوان البحري كالهواء للحيوان البري فهما بحران احدهما الطف من الاخر بحر هواء يسبح فيه حيوان البر وبحر ماء يسبح فيه حيوان البحر فلو فارق كل من الصنفين بحره الى البحر الاخر مات فكما يختنق الحيوان البري في الماء يختق الحيوان البحري في الهواء فسبحان من لايحصى العادون آياته ولا يحيطون بتفصيل آية منها على الانفراد بل ان علموا فيها وجها جهلوا منها اوجها.
حكمــــــة
تأمل الحكمة البالغة في كون السمك اكثر الحيوان نسلا ولهذا ترى في وف السمكة الواحد من البيض مالا يحصى كثرة وحكمة ذلك ان يتسع لما يغتذى به من اصناف الحيوان فإن اكثرها يأكل السمك حتى السباغ لانها في حافات الاجام جاثمة تعكف على الماء الصافي فإذا تعذر عليها صيدالبر رصدت السمك فاختطفته فلما كانت السباع تأكل السمك والطير تأكله والناس تأكله والسماك الكبار تأكله ودواب البر تأكله وقد جعله الله سبحانه غذاء لهذه الاصناف اقتضت حكمته ان يكون بهذه الكثرة.
حكمــــــة
إن الجراد نثرة حوت من حيتان البحر ينثره من منخريه وهو جند من جنود الله ضعيف الخلقة عجيب التركيب فيه خلق سبع حيوانات فإذا رايت عساكره قد اقبلت ابصرت جندا لا مرد له ولا يحصى منه عدد ولا عدة فلو جمع الملك خيله ورجله ودوابه وسلاحه ليصده عن بلاده لما أمكنه ذلك فانظر كيف ينساب على الارض كالسيل فيغشى السهل والجبل والبدو والحضر حتى يستر نور الشمس بكثرته ويسد وجه السماء بأجنحته ويبلغ من الجو الى حيث لا يبلغ طائر اكبر جناحين منه
حكمــــــة
تأمل حكمة الله تعالى في صرفه الهدى والايمان عن قلوب الذين يصرفون الناس عنه فصدهم عنه كما صدوا عباده صدا بصد ومنعا بمنع وتأمل حكمته تعالى في محق اموال المرابين وتسليط المتلفات عليها كما فعلوا باموال الناس ومحقوها عليهم واتلفوها بالربا جوزوا اتلافا باتلاف فقل ان ترى مرابيا إلا وآخرته الى محق وقلة وحاجة.
حكمــــــة
تأمل حكمته تعالى في ان جعل ملوك العباد وأمراءهم وولاتهم من جنس اعمالهم بل كأن أعمالهم ظهرت في صور ولاتهم وملوكهم فإن استقاموا استقامت ملوكهم وإن عدلوا عدلت عليهم وإن جاروا جارت ملوكهم وولاتهم وإن ظهر فيهم المكر والخديعة فولاتهم كذلك وإن منعوا حقوق الله لديهم وبخلوا بها منعت ملوكهم وولاتهم ما لهم عندهم من الحق ونحلوا بها عليهم وإن اخذوا ممن يستضعفونه مالا يستحقونه في معاملتهم اخذت منهم الملوك مالا يستحقونه وضربت عليهم المكوس والوظائف وكلما يستخرجونه من الضعيف يستخرجه الملوك منهم بالقوة فعمالهم ظهرت في صور اعمالهم.
حكمــــــة
تأمل حكمته تبارك وتعالى في عقوبات الامم الخالية وتنويعها عليهم بحسب تنوع جرائمهم كما قال تعالى " وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم " إلى قوله " يظلمون " وتأمل حكمته تعالى في مسخ من مسخ من الامم في صور مختلفة مناسبة لتلك الجرائم فإنها لما مسخت قلوبهم وصارت على قلوب تلك الحيوانات وطباعها اقتضت الحكمة البالغة ان جعلت صورهم على صورها لتتم المناسبة ويكمل الشبه وهذا غاية الحكمة واعتبر هذا بمن مسخوا قردة وخنازير كيف غلبت عليهم صفات هذه الحيواات واخلاقها وأعمالها.
حكمــــــة
تأمل حكمته تبارك وتعالى في إرسال الرسل في الامم واحدا بعد واحد كلما مات واحد خلفه آخر لحاجتها الى تتابع الرسل والانبياء لضعف عقولها وعدم اكتفائها بآثار شريعة الرسول السابق فلما انتهت النبوة الى محمد بن عبد الله رسول الله ونبيه ارسله الى اكمل الامم عقولا ومعارف واصحها اذهانا واغزرها علوما وبعثه باكمل شريعة ظهرت في الارض منذ قامت الدنيا الى حين مبعثه فأغنى الله لامة بكمال رسولها وكمال شريعته وكمال عقولها وصحة اذهانها عن رسول يأتي بعده اقام له من امته ورثة يحفظون شريعته ووكلهم بها حتى يؤدوها إلى نظرائهم ويزرعوها في قلوب أشباههم.
حكمــــــة
قال الله تعالى " لله ملك السموات والارض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء اناثا ويهب لمن يشاء الذكور " الى قوله " قدير " فذكر اصناف النساء الاربعة مع الرجال احدها من تلد الاناث فقط الثانية من تلد الذكور فقط الثالثة من تلد الزوجين الذكر والانثى وهو معنى التزويج هنا ان يجعل ما يهب له زوجين ذكرا او انثى الرابعة العقيم التي لا تلد اصلا ومما يدل على ان سبب الاذكار والايناث لا يعلمه البشر ولا يدرك بالقياس والفكر وإنما يعلم بالوحي.
حكمــــــة
تأمل الحكمة البالغة في تنميتك وكثرة اجزائك من غير تفكيك ولا تفصيل ولو ان صائغا اخذ تمثالا من ذهب او فضة او نحاس فأراد ان يجعله اكبر مما هو هل كان يمكنه ذلك الا بعد ان يكسره ويصوغه صياغة اخرى والرب تعالى ينمي جسم الطفل واعضاءه الظاهرة والباطنة وجميع اجزائه وهو باق ثابت على شكله وهيئته لا يتزايل ولا ينفك ولا ينقص وأعجب من هذا كله تصويره في الرحم حيث لاتراه العيون ولا تلمسه الايدي ولا تصل اليه الالات فيخرج بشرا سويا مستوفيا لكل ما فيه مصلحته وقوامه.
حكمــــــة
الدنيا قرية والمؤمن رئيسها والكل مشغول به ساع في مصالحه والكل قد اقيم في خدمته وحوائجه فالملائكة الذين هم حملة عرش الرحمن ومن حوله يستغفرون له والملائكة الموكلون به يحفظونه والموكلون بالقطر والنبات يسعون في رزقه ويعملون فيه والافلاك سخرت منقادة دائرة بما فيه مصالحه والشمس والقمر والنجوم مسخرات جاريات بحساب ازمنته واوقاته وإصلاح رواتب اقواته والعالم الجوي مسخر له برياحه وهوائه وسحابه وطيره وما اودع فيه والعالم السفلي كله مسخر له مخلوق لمصالحه ارضه وجباله وبحاره وأنهاره وأشجاره وثماره ونباته وحيوانه وكل ما فيه.
حكمــــــة
انظر في نفسك وحكمة الخلاق العليم في خلقك وانظر الى الحواس التي منها تشرف على الاشياء كيف جعلها الله في الراس كالمصابيح فوق المنارة لتتمكن بها من مطالعة الاشياء ولم تجعل في الاعضاء التي تمتهن كاليدين والرجلين فتتعرض للافات بمباشرة الاعمال والحركات ولاجعلها في الاعضاء التي في وسط البدن كالبطن والظهر فيعسر عليك التلفت والاطلاع على الاشياء فلما لم يكن لها في شيء من هذه الاعضاء موضع كان الراس اليق المواضع بها وأجملها فالراس صومعة الحواس.