فوائد من كتاب مفتاح دار السعادة 2
حكمــــــة
قال الله سبحانه عن المسيح انه قال اني عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا اينما كنت قال سفيان بن عيينة جعلني مباركا اينما كنت قال معلما للخير وهذا يدل على ان تعليم الرجل الخير هو البركة التي جعلها الله فيه فإن البركة حصول الخير ونماؤه ودوامه وهذا في الحقيقة ليس إلا في العلم الموروث عن الانبياء وتعليمه ولهذا سمى سبحانه كتابه مباركا كما قال تعالى " وهذا ذكر مبارك انزلناه " وقال " كتاب انزلناه اليك مبارك " ووصف رسوله بأنه مبارك كما في قول المسيح " وجعلني مباركا اينما كنت " فبركة كتابه ورسوله هي سبب ما يحصل بهما من العلم والهدى والدعوة الى الله.
حكمــــــة
عن ابي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال إذا مات ابن آدم انقطع عمله الا من ثلاث صدقة جارية او علم ينتفع به او ولد صالح يدعو له رواه مسلم في الصحيح وهذا من اعظم الادلة على شرف العلم وفضله وعظم ثمرته فإن ثوابه يصل الى الرجل بعد موته ما دام ينتفع به فكأنه حي لم ينقطع عمله مع ماله من حياة الذكر والثناء فجريان اجره عليه إذا انقطع عن الناس ثواب اعمالهم حياة ثانية.
حكمــــــة
قال الربيع سمعت الشافعي يقول طلب العلم افضل من الصلاة النافلة وقال سفيان الثوري ما من عمل افضل من طلب العلم إذا صحت فيه النية وقال رجل للمعافي بن عمران ايما احب الليل اقوم اصلي اليك كله او اكتب الحديث فقال حديث تكتبه احب الي من قيامك من اول الليل إلى آخره وقال ايضا كتابة حديث واحد احب الي من قيام ليلة وقال ابن عباس تذاكر العلم بعض ليلة احب الي من إحيائها.
حكمــــــة
إن العلم من افضل انواع العبادات فهو متضمن للغاية الوسيلة وقولكم ان العمل غاية اما ان تريدوا به العمل الذي يدخل فيه عمل القلب والجوارح او العمل المختص بالجوارح فقط فإن اريد الاول فهو حق وهو يدل على ان العلم غاية مطلوبة لانه من اعمال القلب كما تقدم وان اريد به الثاني وهو عمل الجوارح فقط فليس بصحيح.
حكمــــــة
إن اعمال القلوب مقصودة ومراده لذاتها بل في الحقيقة اعمال الجوارح وسيلة مرادة لغيرها فإن الثواب والعقاب والمدح والذم وتوابعها هو للقلب اصلا وللجوارح تبعا وكذلك الاعمال المقصودة بها اولا صلاح القلب واستقامته وعبوديته لربه ومليكه وجعلت اعمال الجوارح تابعة لهذا المقصود مرادة وان كان كثير منها مرادا لاجل المصلحة المترتبة عليه فمن اجلها صلاح القلب وزكاه وطهارته واستقامته فعلم ان الاعمال منها غاية ومنها وسيلة وان العلم.
حكمــــــة
إن العلم الذي هو وسيلة الى العمل فقط إذا تجرد عن العمل لم ينتفع به صاحبه فالعمل اشرف منه وأما العلم المقصود الذي تنشأ ثمرته المطلوبة منه من نفسه فهذا لا يقال ان العمل المجرد اشرف منه فكيف يكون مجرد العبادة البدنية افضل من العلم بالله واسمائه وصفاته وأحكامه في خلقه وامره ومن العلم بأعمال القلوب وآفات النفوس والطرق التي تفسد الاعمال وتمنع وصولها من القلب الى الله والمسافات التي بين الاعمال والقلب وبين القلب والرب تعالى وبما تقطع تلك المسافات الى غير ذلك من علم الايمان وما يقويه وما يضعفه.
حكمــــــة
إن التفكر يوقع صاحبه من الايمان على مالا يوقعه عليه العمل المجرد فان التفكر يوجب له من انكشاف حقائق الامور وظهورها له وتميز مراتبها في الخير والشر ومعرفة مفضولها من فاضلها واقبحها من قبيحها ومعرفة اسبابها الموصلة اليها وما يقاوم تلك الاسباب ويدفع موجبها والتمييز بين ما ينبغي السعي في تحصيله وبين ما ينبغي السعي في دفع اسبابه والفرق بين الوهم والخيال المانع لاكثر النفوس من انتهاز الفرص بعد امكانها وبين السبب المانع حقيقة فيشتغل به دون الاول.
حكمــــــة
إذا فكر العبد في عواقب الامور وتجاوز فكره مباديها وضعها مواضعها وعلم مراتبها فإذا ورد عليه وارد الذنب والشهوة فتجاوز فكره لذته وفرح النفس به الى سوء عاقبته وما يترتب عليه من الالم والحزن الذي لا يقاوم تلك اللذة والفرحة ومن فكر في ذلك فإنه لا يكاد يقدم عليه وكذلك إذا ورد على قلبه وارد الراحة والدعة والكسل والتقاعد عن مشقة الطاعات وتعبها حتى عبر بفكره الى ما يترب عليها من اللذات والخيرات والافراح التي تغمر تلك الالام التي في مباديها بالنسبة الى كمال عواقبها وكلما غاص فكره في ذلك اشتد طلبه لها وسهل عليه معاناتها استقبلها بنشاط وقوة وعزيمة
حكمــــــة
إذا فكر العبد في منتهى ما يستعبده من المال والجاه والصور ونظر الى غاية ذلك بعين فكره استحى من عقله ونفسه ان يكون عبدا لذلك وكذلك إذا فكر في آخر الاطعمة المفتخرة التي تفانت عليها نفوس اشباه الانعام وما يصير امرها اليه عند خروجها ارتفعت همته عن صرفها الى الاعتناء بها وجعلها معبود قلبه الذي اليه يتوجه وله يرضى ويغضب ويسعى ويكدح ويوالي ويعادي.
حكمــــــة
إن الفكر هو احضار معرفتين في القلب ليستثمر منهما معرفة ثالثة ومثال ذلك إذا احضر في قلبه العاجلة وعيشها وتعيمها وما يقترن به من الافات وانقطاعه وزواله ثم احضر في قلبه الاخرة ونعيمها ولذته ودوامه وفضله علىنعيم الدنيا وجزم بهذين العلمين اثمر له ذلك علما ثالثا وهو ان الاخرة ونعيمها الفاضل الدائم أولىعند كل عاقل بايثاره من العاجلة المنقطعة المنغصة.
حكمــــــة
إن لمعرفة الاخرة حالتان احداهما ان يكون قد سمع ذلك من غيره من غير ان يباشر قلبه برد اليقين به ولم يفض قلبه الى مكافحة حقيقة الاخرة وهذا حال أكثر الناس فيتجاذبه داعيان احدهما داعي العاجلة وايثارها وهو أقوى الداعيين عنده لانه مشاهد له محسوس وداعي الاخرة وهو اضعف الداعيين عنده لانه داع عن سماع لم يباشر قلبه اليقين به ولا كافحه حقيقته العلمية الحالة الثانية ان يتيقن ويجزم جزما لا شك فيه بأن له دارا غير هذه الدار ومعادا له خلق وان هذه الدار طريق الى ذلك المعاد ومنزل من منازل السائرين اليه ويعلم مع ذلك انها باقية ونعيمها وعذابها لا يزول ولا نسبة لهذا النعيم والعذاب العاجل اليه إلا كما يدخل الرجل اصبعه في اليم ثم ينزعها.
حكمــــــة
قال الحسن ما زال اهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر وبالتفكر علىالتذكر ويناطقون القلوب حتى نطقت بالحكمة فالتفكر والتذكر بذار العلم وسقيه مطارحته ومذاكرته تلقيحه قال بعض السلف ملاقاة الرجال تلقيح لالبابها فالمذاكرة بها لقاح العقل فالخير والسعادة في خزانة مفتاحها التفكر فإنه لا بد من تفكر وعلم يكون نتيجته الفكر وحال يحدث للقلب من ذلك العلم.
حكمــــــة
من عمل شيئا من المحبوب او المكروه لا بد ان يبقى لقلبه حالة وينصبغ بصبغة من علمه وتلك الحال توجب له إرادة وتلك الارادة توجب وقوع العمل فها هنا خمسة امور الفكر وثمرته العلم وثمرتهما الحالة التي تحدث للقلب وثمرة ذلك الارادة وثمرتها العلم فالفكر إذا هو المبدأ والمفتاح للخيرات كلها وهذا يكشف لك عن فضل التفكر وشرفه وانه من افضل اعمال القلب وانفعها له.
حكمــــــة
قيل تفكر ساعة خير من عبادة سنة فالفكر هو الذي ينقل من موت الفطنة الى حياة اليقظة ومن المكاره الى المحاب ومن الرغبة والحرص الى الزهد والقناعة ومن سجن الدنيا الى فضاء الاخرة ومن ضيق الجهل الى سعة العلم ورحبه ومن مرض الشهوة والاخلاد الى هذه الدار الى شفاء الانابة الى الله والتجافي عن دار الغرور ومن مصيبة العمى والصمم والبكم الى نعمة البصر والسمع والفهم عن الله والعقل عنه ومن امراض الشبهات الى برد اليقين وثلج الصدور.
حكمــــــة
أصل كل طاعة إنما هي الفكر وكذلك اصل كل معصية إنما يحدث من جانب الفكرة فإن الشيطان يصادف ارض القلب خالية فارغة فيبذر فيها حب الافكار الردية فيتولد منه الارادات والعزوم فيتولد منها العمل فإذا صادف ارض القلب مشغولة ببذر الافكار النافعة فيما خلق له وفيما امر به وفيم هيء له واعد له من النعيم المقيم او العذاب الاليم لم يجد لبذره موضعا.
حكمــــــة
مجرى الفكر ومتعلقه اربعة امور احدها غاية محبوبة مرادة الحصول الثاني طريق موصلة الى تلك الغاية الثالث مضرة مطلوبة الاعدام مكروهة الحصول الرابع الطريق المفضي اليها الموقع عليها فلا تتجاوز افكار العقلاء هذه الامور الاربعة وأي فكر تخطاها فهو من الافكار الردية والخيالات والاماني الباطلة كما يتخيل الفقير المعدم نفسه من اغنى البشر وهو يأخذ ويعطي وينعم ويحرم وكما يتخيل العاجز نفسه من اقوى الملوك وهو يتصرف في البلاد والرعية.
حكمــــــة
كل طالب لشيء فهو محب له مؤثر لقربه ساع في طريق تحصيله متوصل اليه بجهده وهذا يوجب له تعلق افكاره بجمال محبوبه وكماله وصفاته التي يحب لاجلها وتعلقها بما يناله به من الخير والفرح والسرور ففكره في حال محبوبه دائر بين الجمال والاجمال والحسن والاحسان فكلما قويت محبته ازداد هذا الفكر وقوى وتضاعف حتى يستغرق اجزاء القلب فلا يبقى فيه فضل لغيره بل يصير بين الناس بقالبه وقلبه كله في حضرة محبوبه فإن كان هذا المحبوب هو المحبوب الحق الذي لا تنبغي المحبة إلا له ولا يحب غيره إلا تبعا لمحبته فهو اسعد المحبين به وقد وضع الحب موضعه وتهيأت نفسه لكمالها الذي خلقت له والذي لا كمال لها بدونه بوجه.
حكمــــــة
ان تعلق المحبة بغير الاله الحق هو عين شقاء العبد وخسرانه فافكفاره المتعلقة بها كلها باطلة وهي مضرة عليه في حياته وبعدموته والمحب الذي قد ملك المحبوب افكار قلبه لا يخرج فكره عن تعلقه بمحبوبه او بنفسه ثم فكره في محبوبه لا يخرج عن حالتين احداهما فكرته في جماله واوصافه والثانية فكرته في افعاله واحسانه وبره ولطفه الدالة على كمال صفاته وان تعلق فكره بنفسه لم يخرج ايضا عن حالتين اما ان نفكر في اوصافه المسخوطة التي يبغضها محبوبه ويمقته عليها ويسقطه من عينه فهو دائما يتوقع بفكره عليها ليتجنبها ويبعد منها والثانية ان يفكر في الصفات والاخلاق والافعال التي تقربه منه وتحببه اليه حتى يتصف بها.
حكمــــــة
إن الفكرة في الصفة المحبوبة تستدعي ثلاثة امور احدها ان هذه الصفة هل هي محبوبة لله مرضية له ام لا الثاني هل العبد متصف بها ام لا الثالث انه إذا كان متصفا بها فما طريق حفظها ودوامها وان لم يكن متصفا بها فما طريق اجتلائها والتخلق بها ثم فكرته في الافعال على هذين الوجهين ايضا سواء ومجاري هذه الافكار ومواقعها كثيرة جدا لاتكاد تنضبط.
حكمــــــة
إن الفكرة في صفات المعبود وأفعاله واحكامه توجب للعبد التمييز بين الايمان والكفروالتوحيد والشرك والاقرار والتعطيل وتنزيه الرب عما لا يليق به ووصفه بما هو اهله من الجلال والاكرام ومجاري هذه الفكرة تدبر كلامه وما تعرف به سبحانه الى عباده على السنة رسله من اسمائه وصفاته وأفعاله وما نزه نفسه عنه مما لا ينبغي له ولا يليق به سبحانه وتدبر ايامه وافعاله في اوليائه واعدائه التي قصها على عباده واشهدهم اياها ليستدلوا بها على انه الههم الحق المبين الذي لا تنبغي العبادة الا له ويستدلوا بها على انه على كل شيء قدير وانه بكل شيء عليم....
حكمــــــة
خلق الله الازواج التي تسكن اليها الرجال والقاء المودة والرحمة بينهم آيات لقوم يتفكرون فإن سكون الرجل الى امرأته وما يكون بينهما من المودة والتعاطف والتراحم امر باطن مشهود بعين الفكرة والبصيرة فمتى نظر بهذه العين الى الحكمة والرحمة والقدرة التي صدر عنها ذلك دلة فكره على انه الاله الحق المبين الذي أقرت الفطر بربوبيته والاهيته وحكمته ورحمته وجعل المنام بالليل والنهار للتصرف في المعاش وابتغاء فضله آيات لقوم يسمعون وهو سمع الفهم وتدبر هذه الايات وارتباطها بما جعلت آية له.
حكمــــــة
لا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر فإنه جامع لجميع منازل السائرين واحوال العاملين ومقامات العارفين وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والانابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر وسائر الاحوال التي بها حياة القلب وكماله وكذلك يزجر عن جميع الصفات والافعال المذمومة والتي بها فساد القلب وهلاكه فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها فإذا قرأه بتفكر حتى مر بآية وهو محتاجا إليها في شفاء قلبه كررها ولو مائة مرة ولو ليلة فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم وأنفع للقلب وأدعى الى حصول الايمان وذوق حلاوة القرآن.
حكمــــــة
عن ابي جمرة قال قلت لابن عباس اني سريع القراءة إني اقرا القرآن في ثلاث قال لان اقرأ سورة من القرآن في ليلة فأتدبرها وأرتلها احب الي من ان اقرأ القرآن كما تقرأ والتفكر في القرآن نوعان تفكر فيه ليقع على مراد الرب تعالى منه وتفكر في معاني ما دعا عباده الى التفكر فيه فالاول تفكر في الدليل القرآني والثاني تفكر في الدليل العياني الاول ففكر في آياته المسموعة والثاني تفكر في آياته المشهودة ولهذا انزل الله القرآن ليتدبر ويتفكر فيه ويعمل به لا لمجرد تلاوته مع الاعراض عنه، قال الحسن البصري انزل القرآن ليعمل به فاتخذوا تلاوته عملا.
حكمــــــة
إذا تأملت ما دعى الله سبحانه في كتابه عباده الى الفكر فيه اوقعك على العلم به سبحانه وتعالى وبوحدانيته وصفات كماله ونعوت جلاله من عموم قدرته وعلمه وكمال حكمته ورحمته واحسانه وبره ولطفه وعدله ورضاه وغضبه وثوابه وعقابه فبهذا تعرف الى عباده وندبهم الى التفكر في آياته ونذكر لذلك امثلة مما ذكرها الله سبحانه في كتابه يستدل بها على غيرها فمن ذلك خلق الانسان وقدندب سبحانه الى التفكر فيه والنظر في غير موضع من كتابه كقوله تعالى " فلينظر الانسان مم خلق " وقوله تعالى " وفي انفسكم افلا تبصرون ".
حكمــــــة
إن القرآن يدعو العبد الى النظر والفكر في مبدأ خلقه ووسطه وآخره إذ نفسه وخلقه من اعظم الدلائل على خالقه وفاطره واقرب شيء الى الانسان نفسه وفيه من العجائب الدالة على عظمة الله ما تنقضي الاعمار في الوقوف على بعضه وهو غافل عنه معرض عن التفكر فيه ولو فكر في نفسه لزجره ما يعلم من عجائب خلقها عن كفره قال الله تعالى " قتل الانسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم اماته فاقبره ثم إذا شاء انشره ".
حكمــــــة
إن الله سبحانه لم يكرر على اسماعنا وعقولنا ذكر هذا لنسمع لفظ النطفة والعلقة والمضغة والتراب ولا لنتكلم بها فقط ولا لمجرد تعريفنا بذلك بل لامر وراء ذلك كله هو المقصود بالخطاب واليه جرى ذلك الحديث فانظر الان الى النطفة بعين البصيرة وهي قطرة من ماء مهين ضعيف مستقذر لو مرت بها ساعة من الزمان فسدت وانتنت كيف استخرجها رب الارباب العليم القدير من بين الصلب والترائب منقادة لقدرته مطيعة لمشيئته مذللة الانقياد على ضيق طرقها واختلاف مجاريها الى ان ساقها الى مستقرها ومجمعها.
حكمــــــة
انظر كيف جمع الله سبحانه بين الذكر والانثى والقى المحبة بينهما وكيف قادهما بسلسلة الشهوة والمحبة الى الاجتماع الذي هو سبب تخليق الولد وتكوينه وكيف قدر اجتماع ذينك الماءين مع بعد كل منهما عن صاحبه وساقهما من اعماق العروق والاعضاء وجمعهما في موضع واحد جعل لهما قرارا مكينا لا يناله هواء يفسده ولا برد بحمده ولا عارض يصل اليه ولا آفة تتسلط عليه ثم قلب تلك ا لنطفة البيضاء المشربة علقة حمراء تضرب الى سواد ثم جعلها مضغة لحم مخالفة للعلقة في لونها وحقيقتها وشكلها ثم جعله عظاما مجردة لا كسوة عليها مباينة للمضغة في شكلها وهيأتها وقدرها وملمسها ولونها.
حكمــــــة
انظر كيف قسم الله تلك الاجزاء المتشابهة المتساوية الى الاعصاب والعظام والعروق والاوتار واليابس واللين وبين ذلك ثم كيف ربط بعضها ببعض اقوى رباط وأشده وابعده عن الانحلال وكيف كساها لحما ركبه عليها وجعله وعاء لها وغشاء وحافظا وجعلها حاملة له مقيمة له فاللحم قائم بها وهي محفوظة به وكيف صورها فاحسن صورها وشق لها السمع والبصر والفم والانف وسائر المنافذ ومد اليدين والرجلين وبسطهما وقسم رؤسهما بالاصابع ثم قسم الاصابع بالانامل وركب الاعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم والمثانة والامعاء كل واحد منها له قدر يخصه ومنفعة تخصه.
حكمــــــة
انظر الحكمة البالغة في تركيب العظام قواما للبدن وعمادا له وكيف قدرها ربه وخالقها بتقادير مختلفة وأشكال مختلفة فمنها الصغير والكبير والطويل والقصير والمنحنى والمستدير والدقيق والعريض والمصمت والمجوف وكيف ركب بعضها في بعض فمنها ما تركيبه تركيب الذكر في الانثى ومنها ما تركيبه تركيب اتصال فقط وكيف اختلفت اشكالها باختلاف منافعها كالاضراس فإنها لما كانت آلة للطحن جعلت عريضة ولما كانت الاسنان آلة للقطع جعلت مستدقة محددة.
حكمــــــة
لما كان الانسان محتاجا الى الحركة بجملة بدنه وببعض اعضائه للتردد في حاجته لم يجعل عظامه عظما واحدا بل عظاما متعددة وجعل بينها مفاصل حتى تتيسر بها الحركة وكان قدر كل واحد منها وشكله على حسب الحركة المطلوبة منه وكيف شد اسر تلك المفاصل والاعضاء وربط بعضها ببعض بأوتار ورباطات انبتها من احد طرفي العظم والصق احد طرفي العظم بالطرف الاخر كالرباط له ثم جعل في احد طرفي العظم زوائد خارجة عنه وفي الآخر نقرا غائصة فيه موافقة لشكل تلك الزوائد ليدخل فيها وينطبق عليها فإذا أراد العبد ان يحرك جزء من بدنه لم يمتنع عليه ولولا المفاصل لتعذر ذلك عليه.
حكمــــــة
تأمل كيفية خلق الراس وكثرة ما فيه من العظام حتى قيل إنها خمسة وخمسون عظما مختلفة الاشكال والمقادير والمنافع وكيف ركبه سبحانه وتعالى على البدن وجعله عاليا علو الراكب على مركوبه ولما كان عاليا على البدن جعل فيه الحواس الخمس وآلات الادراك كلها من السمع والبصر والشم والذوق واللمس وجعل حاسة البصر في مقدمه ليكون كالطليعة والحرس والكاشف للبدن وركب كل عين من سبع طبقات لكل طبقة وصف مخصوص ومقدار مخصوص ومنفعة مخصوصة لو فقدت طبقة من تلك الطبقات السبع او زالت عن هيئتها وموضعها لتعطلت العين عن الابصار.
حكمــــــة
انظر كيف حسن شكل العينين وهيئتها ومقدارهما ثم جملهما بالاجفان غطاء لهما وسترا وحفظا وزينة فهما يتلقيان عن العين الاذى والقذا والغبار ويكنانهما من البارد المؤذي والحار المؤذي ثم غرس في اطراف تلك الاجفان الاهداب جمالا وزينة ولمنافع اخر وراء الجمال والزينة ثم اودعهما ذلك النور الباصر والضوء الباهر الذي يخرق ما بين السماء والارض ثم يخرق السماء مجاوزا لرؤية ما فوقها من الكواكب وقد اودع سبحانه هذا السر العجيب في هذا المقدار الصغير بحيث تنطبع فيه صورة السموات مع اتساع اكنافها وتباعد اقطارها وشق له السمع.
حكمــــــة
شق الله السمع وخلق الاذن احسن خلقه وابلغها في حصول المقصود منها فجعلها مجوفة كالصدفة لتجمع الصوت فتؤديه الى الصماخ وليحس بدبيب الحيوان فيها فيبادر الى اخراجه وجعل فيها غضونا وتجاويف واعوجاجات تمسك الهواء والصوت الداخل فتكسر حدته ثم تؤديه الى الصماخ ومن حكمة ذلك ان يطول به الطريق على الحيوان فلا يصل الى الصماخ حتى يستيقظ او ينتبه لامساكه وفيه ايضا حكم غير ذلك ثم اقتضت حكمة الرب الخالق سبحانه ان جعل ماء الاذن مرا في غاية المرارة فلا يجاوزه الحيوان ولا يقطعه داخلا الى باطن الاذن بل إذا وصل اليه اعمل الحيلة في رجوعه وجعل ماء العينين ملحا ليحفظها فإنها شحمة قابلة للفساد فكانت ملوحة مائها صيانة لها وحفظا.
حكمــــــة
جعل الله ماء الفم عذبا حلوا ليدرك به طعوم الاشياء على ما هي عليه إذ لو كان على غير هذه الصفة لاحالها الى طبيعته كما ان من عرض لفمه المرارة استمر طعم الاشياء التي ليست بمرة ونصب سبحانه قصبة الانف في الوجه فأحسن شكله وهيأته ووضعه وفتح فيه المنخرين وحجز بينهما بحاجز واودع فيهما حاسة الشم التي تدرك بها انواع الروائح الطيبة والخبيثة والنافعة والضارة وليستنشق به الهواء فيوصله الى القلب فيتروح به ويتغذى به ثم لم يجعل في داخله من الاعوجاجات والغضون ما جعل في الاذن لئلا يمسك الرائحة فيضعفها ويقطع مجراها وجعله سبحانه مصبا تنحدر اليه فضلات الدماغ فتجتمع فيه ثم تخرج منه.
حكمــــــة
شق الله سبحانه للعبد الفم في احسن موضع واليقه به واودع فيه من المنافع وآلات الذوق والكلام وآلات الطحن والقطع ما يبهر العقول عجائبه فأودعه اللسان الذي هو احد آياته الدالة عليه وجعله ترجمانا لملك الاعضاء مبينا مؤديا عنه كما جعل الاذن رسولا مؤديا مبلغا اليه فهي رسوله وبريده الذي يؤدي اليه الاخبار واللسان بريده ورسوله الذي يؤدي عنه ما يريد واقتضت حكمته سبحانه ان جعل هذا الرسول مصونا محفوظا مستورا غير بارز مكشوف كالاذن والعين والانف لان تلك الاعضاء لما كانت تؤدي من الخارج اليه جعلت بارزة ظاهرة ولما كان اللسان مؤديا منه الى الخارج جعل له سترا مصونا لعدم الفائدة في إبرازه لانه لا يأخذ من الخارج الى القلب.
حكمــــــة
زين الله سبحانه الفم بما فيه من الاسنان التي هن جمال له وزينة وبها قوام العبد وغذاؤه وجعل بعضها ارحاء للطحن وبعضها آلة للقطع فاحكم اصولها وحدد رؤسها وبيض لونها ورتب صفوفها متساوية الرؤس متناسقة الترتيب كأنها الدر المنظوم بياضا وصفاء وحسنا واحاط سبحانه على ذلك حائطين واودعهما من المنافع والحكم ما اودعهما وهما الشفتان فحسن لونهما وشكلهما ووضعهما وهيأتهماوجعلهما غطاء للفم وطبقا له وجعلهما إتماما لمخارج حروف الكلام ونهاية له كما جعل اقصى الحلق بداية له واللسان وما جاوره وسطا ولهذا كان اكثر العمل فيها له إذ هو الواسطة.
حكمــــــة
خلق سبحانه الحناجر مختلفة الاشكال في الضيق والسعة والخشونة والملاسة والصلابة واللين والطول والقصر فاختلفت بذلك الاصوات اعظم اختلاف ولا يكاد يشتبه صوتان إلا نادرا ولهذا كان الصحيح قبول شهادة الاعمى لتمييزه بين الاشخاص بأصواتهم كما يميز البصير بينهم بصورهم والاشتباه العارض بين الاصوات كالاشتباه العارض بين الصور.
حكمــــــة
زين الله سبحانه الرأس بالشعر وجعله لباسا له لاحتياجه اليه وزين الوجه بما انبت فيه من الشعور المختلفة الاشكال والمقادير فزينه بالحاجبين وجعلهما وقاية لما يتحدر من بشرة الراس الى العينين وقوسهما وأحسن خطهما وزين أجفاف العينين بالاهداب وزين الوجه ايضا باللحية وجعلها كمالا ووقارا ومهابة لرجل زين الشفتين بما انبت فوقهما من الشارب وتحتهما من العنفقة
حكمــــــة
خلق الله سبحانه اليدين اللتين هما آلة العبد وسلاحه ورأس مال معاشه فطولهما يحيث يصلان الى ما شاء من بدنه.وعرض الكف ليتمكن به من القبض والبسط وقسم فيه الاصابع الخمس وقسم كل اصبع بثلاث انامل والابهام باثنتين ووضع الاصابع الاربعة في جانب والابهام في جانب لتدور الابهام على الجميع فجاءت على احسن وضع صلحت به للقبض والبسط ومباشرة الاعمال ولو اجتمع الاولون والاخرون على ان يستنبطوا بدقيق افكارهم وضعا آخر للاصابع سوى ما وضعت عليه لم يجدوا اليه سبيلا فتبارك من لو شاء لسواها وجعلها طبقا واحدا كالصفيحة فلم يتمكن العبد بذلك من مصالحة وانواع تصرفاته ودقيق الصنائع والخط وغير ذلك.
حكمــــــة
انظر الى الحكمة البالغة في جعل عظام اسفل البدن غليظة قوية لانها اساس له وعظام اعاليه دونها في الثخانة والصلابة لانها محمولة ثم انظر كيف جعل الرقبة مركبا للرأس وركبها من سبع خرزات مجوفات مستديرات ثم طبق بعضها على بعض وركب كل خرزة تركيبا محكما متقنا حتى صارت كأنها خرزة واحدة ثم ركب الرقبة على الظهر والصدر ثم ركب الظهر من أعلاه الى منتهى عظم العجز من أربع وعشرين خرزة مركبة بعضها في بعض هي مجمع اضلاعه والتي تمسكها ان تنحل وتنفصل ثم وصل تلك العظام بعضها ببعض فوصل عظام الظهر بعظام الصدر وعظام الكتفين بعظام العضدين والعضدين بالذراعين والذراعين بالكف والاصابع.
حكمــــــة
انظر كيف جعل الرقبة مركبا للرأس وركبها من سبع خرزات مجوفات مستديرات ثم طبق بعضها على بعض وركب كل خرزة تركيبا محكما متقنا حتى صارت كأنها خرزة واحدة ثم ركب الرقبة على الظهر والصدر ثم ركب الظهر من أعلاه الى منتهى عظم العجز من أربع وعشرين خرزة مركبة بعضها في بعض هي مجمع اضلاعه والتي تمسكها ان تنحل وتنفصل ثم وصل تلك العظام بعضها ببعض فوصل عظام الظهر بعظام الصدر وعظام الكتفين بعظام العضدين والعضدين بالذراعين والذراعين بالكف والاصابع.
حكمــــــة
انظر كيف كسا العظام العريضة كعظام الظهر والراس كسوة من اللحم تناسبها والعظام الدقيقة كسوة تناسبها كالاصابع والمتوسطة كذلك كعظام الذراعين والعضدين فهو مركب على ثلاثمائة وستين عظما مائتان وثمانية وأربعون مفاصل وباقيها صغار حشيت خلال المفاصل فلو زادت عظما واحدا لكان مضرة على الانسان يحتاج الى قلعة ولو نقصت عظما واحدا كان نقصانا يحتاج الى جبره فالطبيب ينظر في هذه العظام وكيفية تركيبها ليعرف وجه العلاج في جبرها والعارف ينظر فيها ليستدل بها على عظمة باريها وخالقها وحكمته وعلمه ولطفه وكم بين النظرين.
حكمــــــة
من عجائب خلقه انه جعل في الراس ثلاث خزائن نافذا بعضها الى بعض خزانة في مقدمه وخزانة في وسطه وخزانة في آخره واودع تلك الخزائن من أسراره ما اودعها من الذكر والفكر والتعقل ومن عجائب خلقه ما فيه من الامور الباطنة التي لا تشاهد كالقلب والكبد والطحال والرئة والامعاء والمثانة وسائر ما في بطنه من الالات العجيبة والقوى المتعددة المختلفة المنافع فأما القلب فهو الملك المستعمل لجميع آلات البدن والمستخدم لها فهو محفوف بها محشود مخدوم مستقر في الوسط وهو اشرف اعضاء البدن وبه قوام الحياة.
حكمــــــة
إن جميع الاعضاء الظاهرة والباطنة وقواها انما هي جند من اجناد القلب فإن العين طليعته ورائده الذي يكشف له المرئيات فإن رأت شيئا أدته اليه ولشدة الارتباط الذي بينها وبينه إذا استقر فيه شيء ظهر فيها فهي مرآته المترجمة للناظر ما فيه كما ان اللسان ترجمانه المؤدي للسمع ما فيه ولهذا كثيرا ما يقرن سبحانه في كتابه بين هذه الثلاث كقوله " أن السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسئولا " وقوله " وجعلنا لهم سمعا وابصارا وأفئدة " وقوله " صم بكم عمي ".
حكمــــــة
إذا نظر العبد الى غذائه فقط في مدخله ومستقره ومخرجه رأى فيه العبر والعجائب كيف جعلت له آلة يتناول بها ثم باب يدخل منه ثم آلة تقطعه صغارا ثم طاحون يطحنه ثم اعين بماء يعجنه ثم جعل له مجرى وطريقا الى جانب النفس ينزل هذا ويصعد هذا فلا يلتقيان مع غاية القرب ثم جعل له حوايا وطرقا توصله الى المعدة فهي خزانته وموضع اجتماعه ولها بابان باب اعلى يدخل منه الطعام وباب اسفل يخرج منه تفله والباب الاعلى اوسع من الاسفل إذ الاعلى مدخل للحاصل والاسفل مصرف للضار منه والاسفل منطبق دائما ليستقر الطعام في موضعه فإذا انتهى الهضم فإن ذلك الباب ينفتح الى انقضاء الدفع ويسمى البواب لذلك.
حكمــــــة
إن الارض والبحار والهواء وكل ما تحت السموات بالاضافة الى السموات كقطرة في بحر ولهذا قل ان تجيء سورة في القرآن الا وفيها ذكرها إما إخبارا عن عظمها وسعتها وإما اقساما بها وإما دعاء الى النظر فيها وإما ارشادا للعباد ان يستدلوا بها على عظم بانيها ورافعها وإما استدلالا منه سبحانه بخلقها على ما أخبر به من المعاد والقيمة وإما استدلالا منه بربوبيته لها على وحدانيته وأنه الله الذي لا إله الا هو وإما استدلالا منه بحسنها واستوائها والتئام اجزائها وعدم الفطور فيها على تمام حكمته وقدرته وكذلك ما فيها من الكواكب والشمس والقمر والعجائب التي تتقاصر عقول البشر عن قليلها.
حكمــــــة
تأمل خلق هذا السقف الاعظم مع صلابته وشدته ووثاقته من دخان وهو بخار الماء قال الله تعالى " وبنينا فوقكم سبعا شدادا " وقال تعالى " أأنتم اشد خلقا ام السماء بناها رفع سمكها فسواها " وقال " وجعلنا السماء سقفا محفوظا " فانظر الى هذا البناء العظيم الشديد الواسع الذي رفع سمكه اعظم ارتفاع وزينه باحسن زينة وأودعه العجائب والايات وكيف ابتدأ خلقه من بخار ارتفع من الماء وهو الدخان.
حكمــــــة
لقد الله تعرف الى خلقه بأنواع التعرفات ونصب لهم الدلالات واوضح لهم الايات البينات ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم فارجع البصر الى السماء وانظر فيها وفي كواكبها ودورانها وطلوعها وغروبها وشمسها وقمرها واختلاف مشارقها ومغاربها ودؤوبها في الحركة على الدوام من غير فتور في حركتها ولا تغير في سيرها بلت جري في منازل قد رتبت لها بحساب مقدر لا يزيد ولا ينقص الى ان يطويها فاطرها وبديعها وانظر الى كثرت كواكبها واختلاف الوانها ومقاديرها فبعضها يميل الى الحمرة وبعضها الى البيضا وبعضها الى اللون الرصاصي.
حكمــــــة
انظر الى مسير الشمس في فلكها في مدة سنة ثم هي في كل يوم تطلع وتغرب بسير سخرها له خالقها لا تتعداه ولا تقصر عنه ولولا طلوعها وغروبهالما عرف الليل والنهار ولا المواقيت ولاطبق الظلام على العالم او الضياء ولم يتميز وقت المعاش من وقت السبات والراحة وكيف قدر لها السميع العليم سفرين متباعدين احدهما سفرها صاعدة الى اوجها والثاني سفرها هابطة الى حضيضها تنتقل في منازل هذا السفر منزلة منزلة حتى تبلغ غايتها منه فاحدث ذلك السفر بقدرة الرب القادر اختلاف الفصول من الصيف والشتاء والخريف والربيع.
حكمــــــة
انظر الى القمر وعجائب آياته كيف يبديه الله كالخيط الدقيق ثم يتزايد نوره ويتكامل شيئا فشيئا كل ليلة حتى ينتهي الى ابداره وكماله وتمامه ثم يأخذ في النقصان حتى يعود الى حالته الاولى ليظهر من ذلك مواقيت العباد في معاشهم وعبادتهم ومناسكهم فتميزت به الاشهر والسنين وقام حساب العالم مع ما في ذلك من الحكم والايات والعبر التي لا يحصيها الا الله وبالجملة فما من كوكب من الكواكب الا وللرب تبارك وتعالى في خلقه حكم كثيرة ثم في مقداره ثم في شكله ولونه ثم في موضعه من السماء وقربه من وسطها وبعده وقربه من الكوكب الذي يليه وبعده منه.
حكمــــــة
إنك ترى الكوكب كانه لا يسير وهو من اول جزء من طلوعه الى تمام طلوعه يكون فلكه قد طلع بقدر مسافة الارض مائة مرة او اكثر وذلك بعد لحظة واحدة لان الكوكب إذا كان بقدر الارض مائة مرة مثلا ثم سار في اللحظة من موضع الىموضع فقد قطع بقدر مسافة الارض مائة مرة وزيادة في لحظة من اللحظات وهكذا يسير على الدوام والعبد غافل عنه وعن آياته وقال بعضهم إذا تلفظت بقولك لا نعم فبين اللفظتين تكون الشمس قد قطعت من الفلك مسيرة خمسمائة عام.
حكمــــــة
إذا نظرت الى الارض وكيف خلقت رأيتها من اعظم آيات فاطرها وبديعها خلقها سبحانه فراشا ومهادا وذللها لعباده وجعل فيه ارزاقهم واقواتهم ومعايشهم وجعل فيها السبل لينتقلوا فيها في حوائجهم وتصرفاتهم وارساها بالجبال فجعلها اوتادا تحفظها لئلا تميد بهم ووسع اكنافها ودحاها فمدها وبسطها وطحاها فوسعها من جوانبها وجعلها كفاتا للاحياء تضمهم على ظهرها ما داموا احياء وكفاتا للأموات تضمهم في بطنها إذا ماتوا فظهرها وطن للاحياء وبطنها وطن للاموات وقد اكثر تعالى من ذكر الارض في كتابه ودعا عباده الى النظر اليها والتفكر في خلقها فقال تعالى " والارض فرشناها فنعم الماهدون ".
حكمــــــة
قال تعالى " وفي الارض قطع متجاورات وجنات من اعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الاكل ان في ذلك لايات لقوم يعقلون " فكيف كانت هذه الاجنة المختلفة مودعة في بطن هذه الام وكيف كان حملها من لقاح واحد صنع الله الذي اتقن كل شيء لا إله إلا هو ولولا ان هذا من اعظم آياته لما نبه عليه عباده وهداهم الى التفكير فيه قال الله تعالى " وترى الارض هامدة فإذا انزلنا عليها الماء اهتزت وربت وانبتت من كل زوج بهيج ذلك بان الله هو الحق وانه يحيي الموتى وانه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ".
حكمــــــة
انظر كيف احكم جوانب الارض بالجبال الراسيات الشوامخ الصم الصلاب وكيف نصبها فأحسن نصبها وكيف رفعها وجعلها اصلب اجزاء الارض لئلا تضمحل علىتطاول السنين وترادف الامطار والرياح بل اتقن صنعها واحكم وضعها واودعها من المنافع والمعادن والعيون ما اودعها ثم هدى الناس الى استخراج تلك المعادن منها والهمهم كيف يصنعون منها النقود والحليوالزينة واللباس والسلاح وآلة المعاش على اختلافها ولولا هدايته سبحانه لهم الى ذلك لما كان لهم علم شيء منه ولا قدرة عليه.
حكمــــــة
من آيات الله الباهرة هذا الهواء اللطيف المحبوس بين السماء والارض يدرك بحس اللمس عند هبوبه يدرك جسمه ولا يرى شخصه فهو يجرى بين السماء والارض والطير مختلفة فيه سابحة بأجنحتها في أمواجه كما تسبح حيوانات البحر في الماء وتضطرب جوانبه وأمواجه عند هيجانه كما تضطرب امواج البحر فإذا شاء سبحانه وتعالى حركه بحركة الرحمة فجعله رخاء ورحمة وبشرى بين يدي رحمته ولاقحا للسحاب يلقحه بحمل الماء كما يلقح الذكر الانثى بالحمل وتسمى رياح الرحمة المبشرات ورياح العذاب العاصف والقاصف وهما في البحر والعقيم والصرصر وهما في البر وإن شاء حركه بحركة العذاب فجعله عقيما وأودعه عذابا اليما وجعله نقمة على من يشاء من عباده.
حكمــــــة
إن السفن إنما تسير بالريح الواحدة التي تأتي من وجه واحد فإذا اختلفت الرياح على السفن وتقابلت لم يتم سيرها فالمقصود منها في البحر خلاف المقصود منها في البر إذ المقصود في البحر ان تكون واحدة طيبة لا يعارضها شيء فأفردت هنا وجمعت في البر ثم انه سبحانه اعطى هذا المخلوق اللطيف الذي يحركه اضعف المخلوقات ويخرقه من الشدة والقوة والباس ما يقلق به الاجسام الصلبة القوية الممتنعة ويزعجها عن اماكنها ويفتتها ويحملها على متنه.
حكمــــــة
من آياته السحاب المسخر بين السماء والارض كيف ينشئه سبحانه بالرياح فتثيره كسيفا ثم يؤلف بينه ويضم بعضه الى بعض ثم تلقحه الريح وهي التي سماها سبحانه لواقح ثم يسوقه على متونها الى الارض المحتاجة اليه فإذا علاها واستوى عليها اهراق ماءه عيها فيرسل سبحانه عليه الريح وهو في الجو فتذروه وتفرقه لئلا يؤذي ويهدم ما ينزل عليه بجملته حتى إذا رويت وأخذت حاجتها منه اقلع عنها وفارقها فهي روايا الارض محمولة على ظهور الرياح.
حكمــــــة
إذا تأملت السحاب الكثيف المظلم كيف تراه يجتمع في جو صاف لا كدورة فيه وكيف يخلقه الله متى شاء وإذا شاء وهو مع لينه ورخاوته حامل للماء الثقيل بين السماء والأرض إلى ان يأذن له ربه وخالقه في ارسال ما معه من الماء فيرسله وينزله منه مقطعا بالقطرات كل قطرة بقدر مخصوص اقتضته حكمته ورحمته فيرش السحاب الماء على الارض رشا ويرسله قطرات مفصلة لاتختلط قطرة منها باخرى ولا يتقدم متأخرها ولا يتأخر متقدمها ولا تدرك القطرة صاحبتها فتمزج بها بل تنزل كل واحدة في الطريق الذي رسم لها لا تعدل عنه حتى تصيب الارض قطرة قطرة قد عينت كل قطرة منها لجزء من الارض لا تتعداه إلى غيره.
حكمــــــة
إن من آيات الله سبحانه تعالى الليل والنهار كقوله تعالى " ومن آياته الليل والنهار " وقوله وهو الذي جعل الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا " وقوله عز وجل " وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون " وقوله عز وجل " الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا " وهذا كثير في القرآن فانظر الى هاتين الايتين وما تضمنتاه من العبر والدلالات على ربوبية الله وحكمته كيف جعل الليل سكنا ولباسا يغشى العالم فتسكن فيه الحركات وتأوى الحيوانات الى بيوتها والطير الى اوكارها وتستجم فيه النفوس وتستريح من كد السعي والتعب حتى إذا اخذت منه النفوس راحتها وسباتها وتطلعت الى معايشها وتصرفها جاء فالق الاصباح سبحانه وتعالى بالنهار يقدم جيشه بشير الصباح فهزم تلك الظلمة.
حكمــــــة
إن من آيات الله وعجائبه مصنوعاته البحار المكتنفة لاقطار الارض التي هي خلجان من البحر المحيط الاعظم بجميع الارض حتى ان المكشوف من الارض والجبال والمدن بالنسبة الى الماء كجزيرة صغيرة في بحر عظيم وبقية الارض مغمورة بالماء ولولا امساك الرب تبارك وتعالى له بقدرته ومشيئته وحبسه الماء لطفح على الارض وعلاها كلها هذا طبع الماء وهذا حار عقلاء الطبيعيين في سبب بروز هذا الجزء من الارض مع اقتضاء طبيعة الماء للعلو عليه وإن يغمره ولم يجدوا ما يحيلون عليه ذلك إلا الاعتراف بالعناية الازلية والحكمة الالهية التي اقتضت ذلك العيش الحيوان الارضي في الارض وهذا حق ولكنه يوجب الاعتراف بقدرة الله وإرادته ومشيئته وعلمه وحكمته وصفات كماله ولا محيص عنه.
حكمــــــة
لولا ان الله يحبس البحر ويمسكه لفاض على الارض فالارض في البحر كبيت في جملة الارض اذا تأملت عجائب البحر وما فيه من الحيوانات على اختلاف اجناسها وأشكالها ومقاديرها ومنافعها ومضارها وألوانها حتى ان فيها حيوانا امثال الجبال لا يقوم له شيء وحتى ان فيه من الحيوانات ما يرى ظهورها فيظن انها جزيرة فينزل الركاب عليها فتحس بالنار إذا اوقدت فتتحرك فيعلم انه حيوان وما من صنف من اصناف حيوان البر إلا وفي البحر امثاله حتى الانسان والفرس والبعير واصنافها وفيه اجناس لا يعهد لها نظير في البر اصلا هذا مع ما فيه من الجواهر واللؤلؤ والمرجان فترى اللؤلؤة كيف اودعت في كن كالبيت لها وهي الصدفة تكنها وتحفظها ومنه اللؤلؤ المكنون وهو الذي في صدفه لم تمسه الايدي.
حكمــــــة
تأمل كيف نبت المرجان في قعره في الصخرة الصماء تحت الماء على هيئة الشجر هذا مع ما فيه من العنبر واصناف النفائش التي يقذفها البحر وتستخرج منه ثم انظر الى عجائب السفن وسيرها في البحر تشقه وتمخره بلا قائد يقودها ولا سائق يسوقها وإنما قائدها وسائقها الرياح التي يسخرها الله لاجرائها فإذا حبس عنها القائد والسائق ظلت راكدة على وجه الماء قال الله تعالى " ومن آياته الجواري في البحر كالاعلام ان يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لايات لكل صبار شكور وقال الله تعالى الله الذي سخر لكم البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون "
حكمــــــة
من آياته سبحانه خلق الحيوان على اختلاف صفاته واجناسه واشكاله ومنافعه وألوانه وعجائبه المودعة فيه فمنه الماشي على بطنه ومنه الماشي على رجليه ومنه الماشي على اربع ومنه ما جعل سلاحه في رجليه وهو ذو المخالب ومنه ما جعل سلاحه المناقير كالنسر والرخم والغراب ومنه ما سلاحه الاسنان ومنه ما سلاحه الصياصي وهي القرون يدافع بها عن نفسه من يروم اخذه ومنه ما اعطى منها قوة يدفع بها عن نفسه لم يحتج الى سلاح كالاسد فإن سلاحه قوته ومنه ما سلاحه في ذرقه وهو نوع من الطير إذا دنا منه من يريد اخذه ذرق عليه فأهلكه.
حكمــــــة
قال بعض السلف حق على الناس ان يخرجوا وقت إدراك الثمار وينعها فينظروا اليها ثم تلي ^ انظروا الى ثمره إذا اثمر وينعه ^ ولو اردنا نستوعب ما في آيات الله المشهورة من العجائب والدلالات الشاهدة لله بان الله الذي لا إله إلا هو الذي ليس كمثله شيء وإنه الذي لا أعظم منه ولا أكمل منه ولا ابر ولا ألطف لعجزنا نحن والاولون والاخرون عن معرفة أدنى عشر معشار ذلك ولكن مالا يدرك جميعه لا ينبغي ترك التنبيه على بعض ما يستدل به على ذلك
حكمــــــة
تامل العبرة في موضع هذا العالم وتاليف أجزائه ونظمها على احسن نظام وأدلة على كمال قدرة خالقه وكمال علمه وكمال حكمته وكمال لطفه فإنك إذا تأملت العالم وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع آلاته ومصالحه وكل ما يحتاج اليه فالسماء سقفه المرفوع عليه والارض مهاد وبساط وفراش ومستقر للساكن والشمس والقمر سرجان يزهران فيه والنجوم مصابيح له وزينة وأدلة للمنتقل في طرق هذه الدار والجواهر والمعادنمخزونة فيه كالذخائر والحواصل المعدة المهيأة كل شيء منها لشأنه الذي يصلح له وضروب النبات مهيأ لمآربه وصنوف الحيوان مصروفة لمصالحه فمنها الركوب ومنها الحلوب ومنها الغذاء ومنها اللباس والامتعة والالات.
حكمــــــة
لو كان في السموات والارض إله غير الله لفسد امرهما واختل نظامهما وتعطلت مصالحهما وإذا كان البدن يستحيل ان يكون المدبر له روحان متكافئان متساويان ولو كان كذلك لفسد وهلك مع إمكان ان يكون تحت قهر ثالث هذا من المحال في اوائل العقول وبداية الفطر فلو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون ما اتخذ الله من ولدوما كان معه من اله إذا لذهب كل اله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون فهذان برهانان يعجز الاولون والاخرون ان يقدحوا فيهما بقدح صحيح او ياتوا بأحسن منهما ولا يعترض عليهما إلا من لم يفهم المراد منهما.
حكمــــــة
تأمل خلق السماء وارجع البصر فيها كرة بعد كرة كيف تراها من اعظم الايات في علوها وارتفاعها وسعتها وقرارها بحيث لا تصعد علوا كالنار ولا تهبط نازلة كالاجسام الثقيلة ولا عمد تحتها وعلاقة فوقها بل هي ممسوكة بقدرة الله الذي يمسك السموات والارض ان تزولا ثم تأمل استواءها واعتدالها فلا صدع فيها ولا فطر ولا شق ولا أمت ولا عوج ثم تأمل ما وضعت عليه من هذا اللون الذي هو احسن الالوان واشدها موافقة للبصر وتقوية له.
حكمــــــة
تأمل حال الشمس والقمر في طلوعهما وغروبهما لاقامة دولتي الليل والنهار ولولا طلوعهما لبطل امر العالم وكيف كان الناس يسعون في معائشهم ويتصرفون في امورهم والدنيا مظلمة عليهم وكيف كانوا يتهنون بالعيش مع فقد النور ثم تأمل الحكمة في غروبهما فإنه لولا غروبهما لم يكن للناس هدوء ولا قرار مع فرط الحاجة الى السبات وجموم الحواس وانبعاث القوى الباطنة وظهور سلطانها في النوم المعين على هضم الطعام وتنفيذ الغذاء الى الاعضاء.
حكمــــــة
لولا الغروب لكانت الارض تحمي بدوام شروق الشمس واتصال طلوعها حتى يحترق كل ما عليها من حيوان ونبات فصارت تطلع وقتا بمنزلة السراج يرفع لاهل البيت ليقضوا حوائجهم ثم تغيب عنهم مثل ذلك ليقروا ويهدؤا وصار ضياء النهار مع ظلام الليل وحر هذا مع برد هذا مع تضادهما متعاونين متظاهرين بهما تمام مصالح العالم
حكمــــــة
إن الله تعالى اشار الى هذا المعنى ونبه عباده عليه بقوله عز وجل " قل ارأيتم ان جعل الله عليكم الليل سرمدا الى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم ان جعل الله عليكم النهار سرمدا الى يوم القيامة من اله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه افلا تبصرون " خص سبحانه النهار بذكر البصر لانه محله وفيه سلطان البصر وتصرفه وخص الليل بذكر السمع لان سلطان السمع يكون بالليل وتسمع فيه الحيوانات مالا تسمع في النهار لانه وقت هدوء الاصوات وخمود الحركات وقوة سلطان السمع وضعف سلطان البصر والنهار بالعكس فيه قوة سلطان البصر وضعف سلطان السمع.
حكمــــــة
تأمل بعد ذلك احوال هذه الشمس في انخفاضها وارتفاعها لاقامة هذه الازمنة والفصول وما فيها من المصالح والحكم إذ لو كان الزمان كله فصلا واحدا لفاتت مصالح الفصول الباقية فيه فلو كان صيفا كله لفاتت منافع مصالح الشتاء ولو كان شتاء لفاتت مصالح الصيف وكذلك لو كان ربيعا كله او خريفا كله ففي الشتاء تغور الحرارة في الاجواف وبطون الارض والجبال فتتولد مواد الثمار وغيرها وتبرد الظواهر ويستكثف فيه الهواء فيحصل السحاب والمطر والثلج والبرد الذي به حياة الارض وأهلها واشتداد أبدان الحيوان وقوتها وتزايد القوى الطبيعية واستخلاف ما حللته حرارة الصيف من الابدان.
حكمــــــة
في فصل الربيع تتحرك الطبائع وتظهر المواد المتولدة في الشتاء فيظهر النبات ويتنور الشجر بالزهر ويتحرك الحيوان للتناسل وفي الصيف يحتد الهواء ويسخن جدا فتنضج الثمار وتنحل فضلات الابدان والاخلاط التي انعقدت في الشتاء وتغور البرودة وتهرب الى الاجواف ولهذا تبرد العيون والابار ولا تهضم المعدة الطعام التي كانت تهضمه في الشتاء من الاطعمة الغليظة لانها كانت تهضمها بالحرارة التي سكنت في البطون فلما جاء الصيف خرجت الحرارة الى ظاهر الجسد وغارت البرودة فيه فإذا جاء الخريف اعتدل الزمان وصفا الهواء وبرد فانكسر ذلك السموم وجعله الله بحكمته برزخا بين سموم الصيف وبرد الشتاء لئلا يتنقل الحيوان وهلة واحدة من الحر الشديد الى البرد الشديد فيجد اذاه ويعظم ضرره.
حكمــــــة
تأمل حال الشمس والقمر وما اودعاه من النور والاضاءة وكيف جعل لهما بروجا ومنازل ينزلانها مرحلة بعد مرحلة لاقامة دولة السنة وتمام مصالح حساب العالم الذي لا غناء لهم في مصالحهم عنه فبذلك يعلم حساب الاعمار والاجال المؤجلة للديون والاجارات والمعاملات والعدد وغير ذلك فلولا حلوك الشمس والقمر في تلك المنازل وتنقلهما فيها منزلة بعدمنزلة لم يعلم شيء من ذلك وقد نبه تعالى على هذا في غير موضع من كتابه كقوله " هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك الا بالحق يفصل الايات لقوم يعلمون "
حكمــــــة
تأمل الحكمة في طلوع الشمس على العالم كيف قدره العزيز العليم سبحانه فإنها لو كانت تطلع في موضع من السماء فتقف فيه ولا تعدوه لما وصل شعاعها الى كثير من الجهات لان ظل احد جوانب كرة الارض يحجبها عن الجانب الاخر وكان يكون الليل دائما سرمدا على من لم تطلع عليهم والنهار سرمدا على من هي طالعة عليهم فيفسد هؤلاء وهؤلاء.
حكمــــــة
تأمل الحكمة في مقادير الليل والنهار تجدها على غاية المصلحة والحكمة وان مقدار اليوم والليلة لو زاد على ما قدر عليه او نقص لفاتت المصلحة واختلفت الحكمة بذلك بل جعل مكيالها اربعة وعشرين ساعة وجعلا يتقارضان الزيادة والنقصان بينهما فما يزيد في احدهما من الاخر يعود الاخر فيسترده منه قال الله تعالى " يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ".
حكمــــــة
قال الله تعالى " يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل " وفيه قولان احدهما ان المعنى يدخل ظلمة هذا في مكان ضياء ذلك وضياء هذا في مكان ظلمة الاخر فيدخل كل واحد منهما في موضع صاحبه وعلى هذا فهي عامة في كل ليل ونهار والقول الثاني انه يزيد في احدهما ما ينقصه من الاخر فما ينقص منه يلج في الاخر لا يذهب جملة وعلى هذا فالاية خاصة ببعض ساعات كل من الليل والنهار في غير زمن الاعتدال فهي خاصة في الزمان.
حكمــــــة
تأمل إنارة القمر والكواكب في ظلمة الليل والحكمة في ذلك فإن الله تعالى اقتضت حكمته خلق الظلمة لهدو الحيوان وبرد الهواء على الابدان والنبات فتعادل حرارة الشمس فيقوم النبات والحيوان فلما كان ذلك مقتضى حكمته شاب الليل بشيء من الانوار ولم يجعله ظلمة داجية حندسا لا ضوء فيه اصلا فكان لا يتمكن الحيوان فيه من شيء من الحركة ولا لأعمال ولما كان الحيوان قد يحتاج في الليل الى حركة ومسير وعمل لايتهيأ له بالنهار لضيق النهار او لشدة الحر او لخوفه بالنهار كحال كثير من الحيوان جعل في الليل من اضواء الكواكب وضوء القمر ما يتأتى معه اعمال كثيرة كالسفر والحرث وغير ذلك من اعمال اهل الحروث والزروع.
حكمــــــة
إن الله جعل ضوء القمر بالليل معونة للحيوان على حركاته وجعل طلوعه في بعض الليل دون بعض مع نقص ضوئه عن الشمس لئلا يستوى الليل والنهار فتفوت حكمة الاختلاف بينهما والتفاوت الذي قدره العزيز العليم فتأمل الحكمة البالغة والتقدير العجيب الذي اقتضى ان اعان الحيوان على دولة الظلام بجند من النور يستعين به على هذه الدولة المظلمة ولم يجعل الدولة كلها ظلمة صرفا بل ظلمة مشوبة بنور رحمة منه وإحسانا فسبحان من اتقن ما صنع واحسن كل شيء خلقه.
حكمــــــة
تأمل حكمته تبارك وتعالى في هذه النجوم وكثرتها وعجيب خلقها وأنها زينة للسماء وأدلة يهتدي بها في طرق البر والبحر وما جعل فيها من الضوء والنور بحيث يمكننا رؤيتها مع البعد المفرط ولولا ذلك لم يحصل لنا الاهتداء والدلالة ومعرفة المواقيت ثم تأمل تسخيرها منقادة بامر ربها تبارك وتعالى جارية على سنن واحد اقتضتحكمته وعلمه ان لا تخرج عنه فجعل منها البروج والمنازل والثوابت والسيارة والكبار والصغار والمتوسط والابيض الازهر والابيض الاحمر ومنها ما يخفى على الناظر فلا يدركه.
حكمــــــة
جعل الله منطقة البروج قسمين مرتفعة ومنخفضة وقدر سيرها تقديرا واحدا ونزل الشمس والقمر والسيارات منها منازلها فمنها ما يقطعها في شهر واحد وهو القمر ومنها ما يقطعها في عام ومنها ما يقطعها في عدة اعوام كل ذلك موجب الحكمة والعناية وجعل ذلك اسباب لما يحدثه سبحانه في هذا العالم فيستدل بها الناس على تلك الحوادث التي تقارنها كمعرفتهم بما يكون مع طلوع الثريا إذا طلعت وغروبها إذا سقطت من الحوادث التي تقارنها وكذلك غيرها من المنازل والسيارات.
حكمــــــة
تأمل اختلاف سير الكواكب وما فيه من العجائب كيف تجد بعضها لا يسير إلا مع رفقته لا يفرد عنهم سيره ابدا بل لا يسيرون الا جميعا وبعضها يسير سيرا مطلقا غير مقيد برفيق ولا صاحب بل إذا اتفق له مصاحبته في منزل وافقه فيه ليلة وفارقه الليلة الاخرى فبينا تراه ورفيقه وقرينه إذ رايتهما مفترقين متابعدين كأنهما لم يتصاحبا قط وهذه السيارة لها في سيرها سيران مختلفان غاية الاختلاف سير عام يسير بها فلكها وسير خاص تسير هي في فلكها.
حكمــــــة
إذا قلت ما الحكمة في كون بعض النجوم راتبا وبعضها منتقلا قيل إنها لوكانت كلها راتبة لبطلت الدلالة والحكم التي نشأت من تنقلها في منازلها ومسيرها في بروجها ولو كانت كلها منتقلة لم يكن لمسيرها منازل تعرف بها ولا رسم يقاس عليها لانه إنما يقاس مسير المتنقلة منها بالراتب كما يقاس مسير السائرين على الارض بالمنازل التي يمرون عليها فلو كانت كلها بحال واحدة لاختلط نظامها ولبطلت الحكم والفوائد والدلالات التي في اختلافها ولتشبث المعطل بذلك وقال لو كان فاعلها ومبدعها مختارا لم تكن على وجه واحد فهذا الترتيب والنظام الذي هي عليه من ادل الدلائل على وجود الخالق وقدرته وإرادته وعلمه وحكمته ووحدانيته.
حكمــــــة
تامل هذا الفلك الدوار بشمسه وقمره ونجومه وبروجه وكيف يدور على هذا العالم هذا الدوران الدائم الى آخر الاجل على هذا الترتيب والنظام وما في طي ذلك من اختلاف الليل والنهار والفصول والحر والبرد وما في ضمن ذلك من مصالح ما على الارض من اصناف الحيوان والنبات وهل يخفى على ذي بصيرة ان هذا ابداع المبدع الحكيم وتقدير العزيز العليم ولهذا خاطب الرسل امتهم مخاطبة من لا شك عنده في الله وإنما دعوهم الى عبادته وحده لا ألى الاقرار به فقالت لهم أفي الله شك فاطر السموات والارض فوجوده سبحانه وربوبيته وقدرته اظهر من كل شيء على الاطلاق فهو اظهر للبصائر من الشمس للابصار.
حكمــــــة
قال تعالى في سورة ق " والارض مددناها والقينا فيها رواسي وانبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب " فالتبصرة التعقل والتذكرة التذكر والفكر باب ذلك ومدخله فإذا فكر تبصر وإذا تبصر تذكر فجاء التذكير في الاية لترتيبه على العقل المرتب على الفكر فقدم الفكر إذ هو الباب والمدخل ووسط العقل إذ هو ثمرة الفكر ونتيجته وأخر التذكر إذ هو المطلوب من الفكر والعقل فتأمل ذلك حق التأمل فإن قلت فما الفرق بين التذكر والتفكر فإذا تبين الفرق ظهرت الفائدة قلت التفكر والتذكر اصل الهدى والفلاح وهما قطبا السعادة ولهذا وسعنا الكلام في التفكر في هذا الوجه لعظم المنفعة وشدة الحاجة اليه.
حكمــــــة
قال الحسن ما زال اهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر وبالتفكر على التذكر ويناطقون القلوب حتى نطقت فإذا لها اسماع وابصار فاعلم ان التفكر طلب القلب ما ليس بحاصل من العلوم من امر هو حاصل منها هذا حقيقته فإنه لو لم يكن ثم مراد يكون موردا للفكر استحال الفكر لان الفكر بغير متعلق متفكر فيه محال وتلك المواد هي الامور الحاصلة ولو كان المطلوب بها حاصلا عنده لم يتفكر فيه فإذا عرف هذا فالمتفكر ينتقل من المقدمات والمبادي التي عنده الى المطلوب الذي يريده فإذا ظفر به وتحصل له تذكر به وابصر مواقع الفعل والترك وما ينبغي ايثاره وما ينبغي اجتنابه.
حكمــــــة
التذكر هو مقصود التفكر وثمرته فإذا تذكر عاد بتذكرة على تفكره فاستخرج ما لم يكن حاصلا عنده فهو لا يزال يكرر بتفكره على تذكره وبتذكره على تفكره ما دام عاقلا لان العلم والارادة لا يقفان على حد بل هو دائما سائر بن العلم والارادة وإذا عرفت معنى كون آيات الرب تبارك وتعالى تبصرة وذكرى يتبصر بها من عمى القلب ويتذكر بها من غفلته فان المضاد للعلم اما عمى القلب وزواله بالتبصر وإما غفلته وزواله بالتذكر والمقصود تنبيه القلب من رقدته بالاشارة الى شيء من بعض آيات الله.
حكمــــــة
سل المعطل الجاحد ما تقول في دولاب دائر على نهر قد احكمت آلاته وأحكم تركيبه وقدرت ادواته احسن تقدير وأبلغه بحيث لا يرى الناظر فيه خللا في مادته ولا في صورته وقد جعل على حديقة عظيمة فيها من كل انواع الثمار والزروع يسقيها حاجتها وفي تلك الحديقة ويحسن مراعاتها والقيام بجميع مصالحها فلا يختل منها شيء ولا يتلف ثمارها ثم يقسم قيمتها عند الجذاذ على سائر المخارج بحسب حاجاتهم وضروراتهم فيقسم لكل صنف منهم ما يليق به ويقسمه هكذا على الدوام اترى هذا اتفاقا بلا صانع ولا مختار ولا مدبر بل اتفق وجود ذلك الدولاب والحديقة وكل ذلك اتفاقا من غير فاعل ولا مدبر أفترى ما يقول لك عقلك في ذلك لو كان وما الذي يرشدك اليه ولكن من حكمة العزيز الحكيم ان خلق قلوبا عميا لا بصائر له.